براءة وحشية أو ‘مخدرات الكرادلة’ لمحمد الحباشة

محمد الحباشة كاتب ومترجم تونسي مجاز في اللغة والآداب الإنجليزية وحاصل على ماجستير في الدراسات الثقافية، سبق أن شغل خطة مدير للبرمجة الثقافية بـمؤسسة “بيت الرواية” بمدينة الثقافة بتونس.
حصلت أول مجموعاته القصاصية الصادرة عن منشورات مسكلياني سنة 2021 “مستودع الخنازير”، على جائزة تشجيع الدولة خلال دورة سنة 2023، وتناولت وفق أسلوب روائي سردي مواضيع لها آصرة بالعوالم الحسية الغليظة التي تكشف عن أعطاب اجتماعية متشعبة كالتّعذيب، والغيرة، والانتقام، والاغتصاب، والعنف، تلك التي شكلت قاسما مشتركا لمعيش الحكام والمحكومين، وساهمت ظلالها في تعاظم الخوف من الفِقدان، والشعور الحاد بمرارة الخسارة وسوء الحظّ، وتخلي الضحايا كما الجلّادين، إزاء أوضاع حياتية لا يحكمها غير العبث وانعدام الشعور بالانتماء وفي منتهى الضآلة والعجز، عن أحلامهم، من دون اقتراف أي جريرة ظاهرة.
ولئن سبق أن صدرت له أعمال روائية على غرار “خلدون ميشال” الصادرة عن دار زينت بتونس سنة 2015، و”رجل شارع روما” التي نشرت ضمن اصدارات “هاشيت – أنطوان”، ببيروت سنة 2018. فإنه قد تصدى أيضا لترجمة رواية الأمريكي جون وليام شيفر John William Cheever، “فالكونر”، وهي رواية نشرت في اللغة الإنجليزية سنة 1977، تماثل عرض وقائعها وتقاطعت جوانب من أجوائها بشكل مربك مع تلك الواردة ضمن جديد الحباشة القصصي. فقد ركز “شيفر” على الطبيعة المزدوجة للذات البشرية في تصرّفاتها الاجتماعية المهذّبة وهشاشتها الداخلية، وهو ما جسد أزلية الصراع بين الضوء والظلام، والجسد والروح.
ليس بعيدا أن تكون لـ “أفيون الكرادلة”، وهو العنوان الذي تخيره المؤلف لمجموعته القصصية الثانية، تلك التي تمثل فاتحة إصدارات السلسلة الأدبية التي أحدثتها منشورات خريف وأطلقنا عليها تسمية “رمية نرد”، احتفاء بإبداعات المولعين بالآداب والمهتمين بعالم الفكر والفنون، وللأجواء التي رسمها مؤلف قطافها القصصي علاقة وثيقة بخط هذه السلسلة الأدبي في دعوتها إلى تحريك سواكن الفعل الجمالي، وسعيها إلى عرضه على محكّ التجريب، مع الوقوف في صفّ مختلف أشكال العبور بين الأجناس، بغية فهم التحولات المتسارعة التي تعصف بأيام التونسيين وتكيّف مكتسباتهم، كما تفسر علوقهم في شتى أنواع العقبات والفخاخ، فضلا عن الانصات الرهيف إلى ما يُشكّل منابع الحقيقية والإلهام في مختلف التجارب الروائية، والنقديّة، والمعرفيّة والصحفية الاستقصائية ذات النفس الأدبي الرفيع، باعتبار ذلك دعوة للارتقاء بالذائقة الجمعية وانقلابا جماليا على سجلاّت القيم والمعايير السائدة.
في “أفيون الكرادلة” براءة متوحشة تنظر إلى العالم من عليّ، مدارها ست حركات متساندة تبدأ بـ “سباحة حرة” لتنتهي بـ “آخر قوس قزح” مرورا بـ “أعراس باماكو”، و “أنا نغني على الحب”، و”نادي الكبار”، فـ “أفيون الكرادلة”. ست حكايات مهداة ودادا إلى “شقائق ورد” رحل جلهم إلى عالم أفضل من بينهم الفيلسوف والأديب (كمال الزغبي)، والشاعر (رضا الجلالي) والفنان (رضا بالحاج خليفة المعروف بـاسم أشهر أغانيه “ديكي ديكي”) والرسام (لطفي الأرناؤوط).
وحده رفيق الجيل والدرب نبيه المصباحي الذي أهدى الحباشة وقائع “أعراس باماكو”. حكاية ناسلة عن تجربة انغماس واستكشاف عاين من خلالها المصباحي أسبار بلاد الساحل الافريقي، راويا في انخطاف وذهول جانبا من تفاصيلها لصديقه، الذي استعار فاتن أجوائها لتوسيع متعة الاحتفاء بالقصّ، والخروج بذلك في غواية دالة من الإطار الحميمي للصحبة إلى فسحة التسريد ولذّته التي لا تقاوم.
ضمن أطول قصصه التي مهر بعنوانها كامل مجموعته وكادت الاكتفاء بذاتها لو قدّر لها الانقلاب إلى رواية وافيّة الشروط، يسرد الحباشة تفاصيل مثلت “واقعة العبدلية” تونسيا واقدا لها. فقد استهدف رهط من السلفيين أثناء ربيع 2012، معرضا تشكيليا أقيم بضاحية تونس الشمالية، الشيء الذي ترتبت عنه حالة من الاستنفار والغليان الخطير، كشفت عن تورّط تيارات الإسلام السياسي المحافظة في تحريك تلك الأجواء العنيفة، وفشل دوائر الدولة، تلك التي تحكموا في مفاصلها آنذاك، في حماية الحريات الأساسية للمبدعين.
فقد تعقّب المؤلف مصير فنان تشكيلي قرّر العودة من منفاه الاختياري عند الضفة الشمالية للمتوسط للاستقرار على الضفة الموازية. بيد أنه اصطدم باتساع رقعة المحافظة في تلويناتها السلفية، الشيء الذي حوّل حياته إلى جحيم حقيقي، اضطر مع تفاقمه لمغادرة البلاد مجدّدا للعيش بإحدى البلدات الإيطالية عند محراب الفنون مدينة البندقية. إلا أن انقلاب الظرفية ووقوع الحياة السياسية هناك فريسة لأعطاب التزمّت والانغلاق بعد هيمنة اليمين الجديد وتعاظم منسوب كراهية الأجانب، هو ما أملى عليه المغادرة مجدّدا للاحتماء بمربع الأمان بجوار أصدقاء منفاه الاضطراري القديم بباريس، وانتهى به إلى الاعتراف بأن: “الوطن [الحقيقي] هو الذي يحقّق سعادة المرء وليس مسقط رأسه.” (ص 117).
ولعل ما يشد الانتباه، وبالإضافة إلى تناظر التخيّلي المربك مع الواقعي في تشكيل لحمة التسريد، هو التفطن إلى ما بدا لنا وكأنه انعكاس للعوالم الجوانية للقصاص نفسه، بحيث أضحى بالإمكان رغما عن سبق إصرار الكاتب وترصده، التقاط ما يؤثث حميميته الفنيّة والجمالية والأدبية والفكرية، وذاك لو ندري مظهر يكشف عن رسوخ تجربة، مع قدرة على اكساب التسريد زخما متشعّبا من التفاصيل، تم توظيفها بتدبّر لرفد الحكاية، من دون سقوط في فخاخ التقرير وخروج عن لذة القصّ.
وليس بعيدا عن ذات الطقس ما يصادفنا في ثنايا حكاية الختم المهداة لروح الرسام التونسي لطفي الأرناؤوط. فقد تضمن الحكي هنا أيضا تركيبا لمسار عاثر عاشته ضحية جديدة من ضحايا غواية الافتتان بالتشكيل الفني. بحيث روى لنا مؤلف “آخر قوس قزح” بجميل صنعة، تفاصيل انقاذ الرسام لطفي الأرناؤوط، ذاك الذي حوّله القاصّ إلى ملاك رحمة نازل لتوه من سماء بريئة، لحياة شاب طحنه توحش المدينة وتكالبت عليه الأرزاء من كل حدب وصوب، ليفقد مع ماء الوجه جميع ما يستأهل أن يعيش الفرد منّا من أجله، فينتابه الشك في كل شيء بما في ذلك في موهبته الفنية، تلك التي دفعته في انخطاف إلى ردّ كل جمالية إلى مشهد “قوس قزح”، وهو مشهد لم يفارق ذاكرته الغضة وشدة انبهار والدته التي لم تكن تملّ من النظر إليه بعين صباها.
تلك أيضا كانت حالة من أعاد له الحياة وردّه إلى عالم الرسم في تأثّر مختلف أعماله الفنية: “بصريّا بالفنِّ الإسلامي وعثوره على ضالّته في الزّخرف، أي في تلك المضلّعات المُنيرةِ بضآلةٍ وسطَ السّواد.” وهي فتوح فنية ذات رهافة روحانية عالية ردّها الأرناؤوط إلى ولوج ضوء النهار من تجاويف تلك المضلّعات. فـ “النهار “ليس… سهلا، وفي المتناول، بل نادر وصعب، [لذا يحسن بمن مسّهم ملاك الفن وشياطينه أيضا الكشف] عن امتناعه وندرته. فمن خِلال ذلك فحسبْ [نستطيع أن نمسك به].” (ص 161) لأننا نصبو على الحقيقة إلى: “رؤية ما يخرج عن المألوف والإحساس عميقا به”.
ذلك ما اقترحه الأرناؤوط نقلا عن مروية الحباشة، لما قرّر احتضان من لجأ إليه وإيوائه بمرسمه حتى يتمكّن أخيرا من انجاز أعماله التشكيلية الخاصة. فقد شجعه على الاقتناع بضرورة تغيير الألوان، أو توحيدها…، طالبا منه أن يزرع قوس قزحه بالمربّعات، وبالمُثلّثات، وبالدّوائر، وأن يعمد إلى ثقبه وتبديل شكله والتمرّد على طبيعته. فالفنان الحق لا يكتفي بكونه: “مجرّد رسولٍ بسيط، بل [ينبغي عليه] أن يكُن هو الخالِق! ” (ص 167).
حوّل الحباشة الأرناؤوط بجميل صنعة أدبية وكثير من التوفيق أيضا، إلى أحد أبطال أقاصيصه المشوقة، وهو ما لم يخطر لي شخصيا على بال، أنا الذي جمعتني به جلسات متعدّدة مكنتني من الاطلاع على “خربشاته” البديعة وإبداء الراي فيها. خربشات هي أقرب إلى الخواطر، وضعها -على شاكلة مثقفي جيله ومبدعيه- في لغة تماس بين الفرنسية والعربية ولهجة التخاطب التونسية، واحتاج استعراضها إلى ما لا يقل عن 200 صفحة، تخيّر لها تسمية: “شظايا هجينة لكتابة بورتريه ذاتي Fragments hybrides pour un autoportrait”، متعرضا ضمنها إلى مسائل فنية شائكة تحيل على شخصية التونسي، وفق رؤية مفارقة تُأثّل للكلم وتكسر قوالبه تفكيكا وتركيبا بطريقة مبهرة متفرّدة على ما أعتقد. كتابة تماس تحتاج إلى طفيف تشذيب، أو إلى ترجمة في لغة الضد أو ما يقاربها، حتى تخرج مثل فلق الصبح لمن يلقي السمع وهو شهيد.
أهدى الحباشة عروض قصة “أنا نغني للحب” لروح “بو الرّي” أو رضا بالحاج خليفة المكنى بـ “رضا ديكي ديكي”، آتيا ضمنها على جوانب قاسية وجدّ موجعة من مسار عاثر لفنان تونسي مبدع عاش مرارة الهامشية على الضفة الجنوبية للمتوسط. لذلك اعتبر المؤلِّف أنه: “عندما وزع الله الحظ على البشر، يبدو أن رضا كان في آخر الصفّ” (ص 51).
انطلقت الحكاية عكسيا من لحظات احتضاره الأخيرة بالمشفى، لينقل لنا “جمال” القادم لتوّه من فرنسا تفاصيل مؤلمة لمرافقته لأخيه رضا في أيامه الأخيرة. بحيث رسم لنا فيما يشبه القبول بالقضاء أطوار هدر ما تبقي لأيقونة تونسية من كرامة بشرية. فقد تم تطوافه بين المشافي العمومية العفنة، بعد أن هاجمه بغتة كبش نطيح ساعة نحس، وهو بصدد قطع الطريق لإحضار افطاره من محل قريب من بيته الواقع وسط مدينة تونس، تلك الحاضرة القميئة التي ازداد واقعها سوءا مما دفع بـ “جمال” إلى ندب حظ: الأجيال القادمة، هي التي ستواجه مثل ذلك الكمّ من الخسة والانحطاط” (ص 50).
خلال نهاية سبعينات القرن الماضي عاش رضا أو “بو الرّي” كما يطيب لأصفيائه أن ينادونه مداعبة وتلطّفا، أزهى أيام رحلته الفنية. فقد شاعت أغانيه التي اشتهر بها على غرار “أنا عندي رُندِيفو” أو “أنا نغنّي على الحب…”، وكذا فريدته “ديكي ديكي”، وهي التي خصّ بها -في غواية دالة- الكبار دون الصبية، قاصدا التهكّم على الزعيم الأوحد والرئيس الابدي للتونسيين الحبيب بورقيبة. أما أغنية “الرزبوط” (أو الدوامة) فتحيل من جانبها على سنوات بطالته بمسقط رأسه “قصر هلال” الساحلية، شاكس من خلال كلماتها ذاته المتقلبة التي لا تسقر على شيء.
لم يكن رضا مستكينا لـمدلول “الالتزام” أو “النضال” تونسيا (ص 54)، حتى وإن تقاسم مع بني وطنه أواسط ثمانينات القرن الماضي، وبكثير من السخرية المستفزة اللاذعة لرؤوس النظام القائم، موقفا فكاهيا مشهورا تخير له عنوان: “يا هشام حلّ الباب لـمِّيمتك” (عزيزي هشام افتح باب الدار لأمك)، موقف هزلي قصّ من خلاله حكاية بسيطة مبْنَاها إيصاد باب الحرية في وجه أمٍّ ودودة، وصَمَمِ ابنها الساذج عن نداءاتها واستغاثتها قصد رفع الرتاج وإشراع باب التحرّر.
في جنازة “رضا” رأى “جمال”: “وجوها للمرة الأولى، ادعى جميعهم أنه من أوفى أصدقاء “ديكي”، كما اضطر إلى طرد “ممثل الوزارة…الذي سحب في صفاقة يعسر توصيفها ورقة كتبها له الوزير للتأبين. كان بودّه ضربه لولا حرمة المقبرة. “دفن جمال رضا، ليواري معه نصف روحه.” موته كان بمثابة: “أغنية أخيرة…عاش يغني على ديك ومات بنطح كبش.” (ص 69).
بقية قصص المجموعة تحيل على مضامين متباينة أثارت فضولنا من بينها استطلاعات مشوقة في “أعراس بامكو”، وغرابة الفنتازيا الايروتيكية في “نادي الكبار”، وهامشية الانقلابية المتوحشة في “سباحة حرة”. فقد تسقّط الحباشة سماعا عن صديقه نبيه المصباحي، أخبار رحلة أخذته إلى بماكو عاصمة جمهورية مالي بإفريقيا جنوب الصحراء، فقرّر عرضها في جميل نضارتها وبعد تكييفها أدبيا على واسع قرائه. حكايات أخذت بطلها في رحلة شغل واستكشاف تعرّف من خلالها على عوالم خطيرة كادت أن تعرّض حياته إلى الهلاك لما وقع ضحية عملية اختطاف من قبل جماعات “بوكو حرام” السلفية، وأخرى باذخة لم يكن بطل القصة “نبيه” ليتصوّر انطباعها في ذاكرته بتلك الطريقة. عوالم جمعته بغادة الفتنة والدلال زينب النوبية، تلك التي قدّر الراوي أن: “ابتسامتها تلخص كل ابتسامات العالم في ابتسامة واحدة، [فقد] تركت من أجله ربها جانيا، لتلتقم “عميرة” بين شفتيها وتمارس [بصحبة من أحبت] أروع الصلات والصلوات”(ص 29 -30). يعترف نبيه بأن: “أعاجيب مالي لا تنتهي، بيد أن أعجوبته التي لا تنسى هي “زينب”، التي لم يكن ما عاشته معه حبّا، بل علاقة تنقص رجلا مثله”.
ذاك بالتحديد ما أعرب عنه الحباشة ضمن حوار أجراه معه موقع العرب بتاريخ الخميس 17 أفريل 2025 لما أسرّ لنا بأن: “الكتابة شكل من أشكال الإقامة في العالم، وبأن السارد لا شيء إذا لم يمتلك حكاية جيّدة قبل أي شيء آخر. فما من كاتب أصيل يستطيع العيش من دون كتابة، لأن في ذلك حاجة جمالية، يصاب العقل من دونها بالصدأ وتعتل الروح بالعطب. لذلك: “ليس بعيدا أن يكون دافع الكتابة في حياتيا، مثله مثل الحاجة إلى الماء والهواء”./.