قادة حماس: رهائن وأبعاد صفقة البقاء

قادة حماس: رهائن وأبعاد صفقة البقاء

لم يعد المشهد في غزة قابلًا لأي تأويل مغاير. فالعملية العسكرية الإسرائيلية دخلت طورًا يتجاوز فكرة الردع أو الضغط العسكري، لتتحول إلى مشروع يعيد إلى الأذهان صور الاحتلال المباشر وإعادة إخضاع القطاع بمنطق القوة. وفي خضم هذه الدوامة، لم يعد ثمة مخرج واقعي سوى التوصل إلى اتفاق يوقف النزيف ويحافظ على ما تبقى من مقومات الحياة، قبل أن تتحول غزة إلى ساحة فارغة من البشر والحجر معًا.

لكن المفارقة المؤلمة أن الطريق نحو هذا الاتفاق لم يكن مسدودًا بالكامل. فقد أتيحت فرص عديدة للتهدئة، وطرحت مبادرات كان بالإمكان أن تخفف من وقع الحرب، غير أن قيادة حماس – ممثلة في بعض وجوهها البارزة مثل خليل الحية وعز الدين الحداد – فضلت تبني خطاب التحدي والمناورة في المفاوضات، وهو ما انعكس على الأرض في صورة تباطؤ أو عدم جدية في التعاطي مع المبادرات. وصحيح أن هؤلاء القياديين لم يكونوا وحدهم في اتخاذ القرار، لكن ثقلهم داخل البنية التنظيمية جعل من مواقفهم عقبة حقيقية أمام إمكانية الوصول إلى وقف لإطلاق النار.

إن التمسك بخيار الصمود إلى آخر لحظة قد يبدو في الظاهر شكلًا من أشكال البطولة، غير أن نتائجه العملية جاءت كارثية. تدمير واسع للمنازل، نزوح عشرات الآلاف من شمال القطاع إلى جنوبه، وانهيار شبكات الخدمات والبنى التحتية. والأخطر من ذلك أن استمرار هذا النهج منح إسرائيل ما كانت تبحث عنه منذ سنوات: الذريعة المثالية لإعادة فرض نفوذها، ليس بوصفها قوة ردع مؤقتة، بل كسلطة أمر واقع تسعى إلى إعادة إخضاع غزة وفق مخطط قديم ظل مؤجلًا في الأدراج.

ويقال إن الحرب تُحسم على طاولة المفاوضات أكثر مما تُحسم في ميادين القتال، غير أن حماس لم تُحسن إدارة هذه المعركة السياسية. فبينما كان القصف يهدم بيوت المدنيين ويقتلع العائلات من جذورها، ظلت قيادتها تراهن على أن طول أمد الحرب سيحسن شروط التفاوض، في وقت كانت فيه إسرائيل تستثمر كل يوم إضافي لتعميق ضربتها وتوسيع نطاق مشروعها. ومن هنا تبرز المسؤولية الأخلاقية: فرفض أي اتفاق جزئي أو هدنة مرحلية لم يعد مجرد تعبير عن صلابة، بل تحول إلى ضوء أخضر مكّن إسرائيل من تمرير سياساتها دون كوابح.

وفي هذا السياق، تبرز ورقة الرهائن التي تتمسك بها حماس كإحدى أدواتها التفاوضية الأهم. غير أن هذه الورقة، رغم ما تمنحه من قوة مؤقتة على طاولة الحوار، تبقى مكلفة جدًا على المستوى الإنساني والسياسي، وقد لا تحقق الأثر المرجو في ظل المسار الإسرائيلي المتجه نحو مزيد من التصعيد والقسوة. ما يجعل الرهان الحقيقي اليوم ليس في الإبقاء على هذه الورقة إلى آخر لحظة، بل في المضي قدمًا نحو صفقة شاملة توقف الحرب وتضع حدًا لهذه المأساة الإنسانية. فالتأخر في إدراك هذه الحقيقة قد يحول ما يعتبر مكسبًا تفاوضيًا إلى عبء يُستخدم ذريعة لمزيد من البطش والتدمير.

ولعل الخطر الأكبر يكمن في فقدان غزة لحاضنتها الشعبية الداخلية. فكل بيت يهدم هو خزان جديد من الغضب، لكنه أيضًا خزان من اليأس. وكل عائلة تهجر من ديارها تجد نفسها أمام سؤال صعب: هل ما يجري تضحية ضرورية من أجل المستقبل، أم هو ثمن عبثي يُدفع نتيجة حسابات سياسية ضيقة؟ هنا بالذات تضعف المقاومة، ليس عسكريًا، بل اجتماعيًا ومعنويًا، وهو ما يُفترض أن يدركه من يرفع شعار الصمود دون حساب لتكلفته الإنسانية.

إنَّ دروس التاريخ تضعنا أمام صورة تكاد تتكرر. فغزة اليوم تشبه في بعض ملامحها مدنًا حوصرت في العصور الغابرة: القدس في زمن الحروب الصليبية، أو حتى ستالينغراد التي تحولت إلى ركام قبل أن تعلن انتصارها. لكن الفرق الجوهري أن تلك المدن كانت تستند إلى أفق استراتيجي واضح، بينما تجد غزة نفسها اليوم في مواجهة حرب مفتوحة بلا مخرج محدد المعالم. وبهذا المعنى، فإن المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق قيادة حماس ليست في قدرتها على إطلاق الصواريخ أو الصمود في الأنفاق، بل في شجاعتها على اتخاذ القرار الذي يحمي القطاع من التحول إلى نسخة أخرى من مدن أبادتها الحروب، ولم يبق منها سوى أطلال يزورها المؤرخون.