حياة مليئة بالهدف

يبحث الإنسان المعاصر عن سؤال قديم جديد: ما معنى الحياة؟ وكيف نحيا حياةً ذات هدف؟ هنا تُصبح الفلسفة الإنسانية لـ”بنجامين فرانكلين” -السياسي والمخترع والمفكر الأميركي الشهير- منارةً تُرشدنا إلى مفهوم عملي وواقعي للعلاقة بين الفرد ووجوده. فرانكلين، الذي عاش في القرن الثامن عشر، لم يكن فيلسوفًا نظريًا، بل كان صانع حياة، واقعًا يترجم الأفكار إلى أفعال، ويحول القيم إلى عادات يومية. من خلال استكشاف أفكاره، نجد أن “الحياة ذات المعنى” ليست هدفًا غامضًا، بل مسارًا بناءً يُبنى بوعي وتصميم.
بدأ فرانكلين رحلته نحو “الكمال الأخلاقي” في شبابه، عندما وضع قائمةً بـ13 فضيلةً جوهريةً، مثل الصدق، والاقتصاد، والاجتهاد، والتواضع، لم يكن هدفه التصدي للخطأ البشري، بل تطوير نظام عملي للتحسين المستمر. كتب في سيرته الذاتية: “قررت أن أخصص أسبوعًا كاملاً لكل فضيلة، وأراقب نفسي بدقة إن كنت قد ارتكبت خطأً في هذا المجال”. هنا، يُظهر فرانكلين أن الحياة ذات المعنى تبدأ من الداخل: من خلال تدريب الذات على الفضائل، يكتسب الإنسان السيطرة على طباعه، ويُصبح قادرًا على الإسهام في المجتمع. فالمغزى لا يُكتشف في تأملات عاطفية، بل في ممارسات يومية تُشكل الشخصية.
لم يفصل فرانكلين بين تحقيق الذات والإسهام في الجماعة. فهو، من ناحية، اخترع المدفأة التي تحمل اسمه، وطور نظام البريد الأميركي، وأسهم في كتابة إعلان الاستقلال الأميركي. ومن ناحية أخرى، كان يُكرّس وقته لخدمة المدينة، من تأسيس المكتبات العامة إلى تطوير خدمات الإطفاء. بالنسبة له، كان العمل الجاد والابتكار وسيلةً لخدمة الإنسانية، لا مجرد طموح فردي. قال ذات مرة: “العمل هو السبيل الوحيد لجني الثمار دون أن تُزرع الأرض”. هذا القول يُشير إلى أن المعنى يُخلق من خلال الإنتاجية والإسهام، وليس من خلال الاستهلاك أو الترف.
قد يرى البعض أن فرانكلين يُبالغ في تركيزه على الفرد، لكن فلسفته تُظهر توازنًا دقيقًا بين الذات والآخر. فهو، من ناحية، يدعو إلى المساءلة الذاتية الدائمة، ومن ناحية أخرى، يؤكد أن الفضيلة الحقيقية تُثبت نفسها في الخدمة الاجتماعية. في مقالاته، كان يُحذر من الأثرياء الذين يُسرفون في الملذات دون أن يُسهموا في المجتمع، ويُمجّد العامل البسيط الذي يُطعم نفسه ويُغذي الآخرين. هذا التوازن يُذكّرنا اليوم بأن حياة ذات معنى لا تُبنى على حساب الآخرين، بل عبر ربط أهداف الفرد برفاه الجماعة.
يُشكك البعض في قدرة أفكار القرن الثامن عشر على معالجة مشكلات العصر الرقمي، حيث تُسيطر التكنولوجيا على الحياة، وتُبدع وسائل التواصل الاجتماعي وهم “الوجود الافتراضي”. لكن فرانكلين نفسه كان رجل تغييرات ثورية، وكان يُدرك أن التقدم لا يعني التخلي عن القيم. لو عاش اليوم، لربما حوّل تطبيقات الهواتف الذكية إلى أدوات لتسجيل التقدم في الفضائل، أو حوّل وسائل التواصل إلى منصة لنشر الأخلاق العملية. المفتاح ليس في نسخ أفكاره حرفيًا، بل في تبني روحها: أن نحيا بوعي، ونُنتج معنىً من خلال أفعالنا اليومية.
يُذكّرنا فرانكلين بأن المعنى لا يُكتشف في العزلة، بل يُبنى عبر الخيارات اليومية الصغيرة: صدقٌ في الحديث، اجتهادٌ في العمل، وتواضعٌ في النجاح. فكل خطوة نحو الفضيلة هي بذرة لحياة ذات هدف، وكل فعل خدمةٍ للآخرين يُعمّق شعور الانتماء. في عصر يُهدّد التكنولوجيا فيه الروابط الإنسانية، تبقى حكمته نبراسًا: “لا تنتظر الفرص، بل اصنعها، واجعل وجودك سببًا في خير”.
تُعلّمنا فلسفة فرانكلين أن الحياة ذات المعنى ليست امتيازًا لقلة، بل نتيجة لاختيارات واعية. هي أن تُمارس الفضيلة كرياضة روحية، وأن تُنتج قيمةً تتجاوز ذاتك، وأن تُوازن بين طموحك وواجبك. في عالم يغرق في الشكوك، قد تكون كلماته الختامية في سيرته الذاتية هي الدليل الخالد: “إذا كنتَ تحب نفسك، فاحترمها، ولا تسمح لها بأن تكون غير نشطة أو غير فاضلة”. فاحترام الذات بالفضيلة، وخدمة الآخرين بالعمل، هذا هو الطريق الذي يحول الحياة من مجرد وجود إلى رسالة ذات معنى.