من جبل علي إلى قناة السويس: تحليل لتنافس المناطق الاقتصادية

في مشهد اقتصادي عالمي يتغير بسرعة، باتت المناطق الاقتصادية الخاصة من أبرز الأدوات التي تعتمد عليها الدول الطامحة في إعادة تشكيل اقتصاداتها، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحقيق التنويع في مصادر الدخل، وفي المنطقة العربية تبرز تجربتان رئيسيتان في هذا المجال: التجربة الخليجية، التي أصبحت نموذجاً إقليمياً ودولياً يحتذى به، والتجربة المصرية، التي لا تزال في طور التشكل، لكنها تحمل في طياتها إمكانات واعدة إذا ما أُحسن توظيفها.في هذا المقال، نحاول تسليط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين التجربتين، وتحليل نقاط القوة والضعف، واستكشاف الفرص الكامنة، ليس من باب المقارنة النظرية، بل بهدف طرح رؤية عملية لتطوير النموذج المصري بشكل ينافس التجارب الإقليمية، بل ربما يتفوق عليها.
إن أول ما يمكن رصده عند الحديث عن الفرق بين التجربتين هو عامل الزمن، فدول الخليج بدأت مبكراً جداً، وتحديداً في التسعينيات، بإنشاء مناطق حرة ومراكز مالية ذات استقلالية تنظيمية وتشريعية واضحة، كتجربة جبل علي في الإمارات، التي استطاعت أن تتحول إلى مركز لوجستي وتصديري بالغ الأهمية إقليمياً وعالمياً، حيث يضم ميناء جبل علي وحده أكثر من 8 آلاف شركة من 130 دولة، ويسهم بأكثر من 23% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي لإمارة دبي، ومن تلك التجربة انطلقت فلسفة التكامل بين البنية التحتية الحديثة، والتشريعات الجاذبة، والخدمات الحكومية السريعة، لتتحول المناطق الاقتصادية في الخليج من مجرد مناطق صناعية محاطة بالحوافز، إلى منصات عالمية متخصصة، تتمتع بهوية واضحة وتوجهات دقيقة، في المقابل شهدت مصر محاولات مبكرة أيضاً في شكل المناطق الحرة العامة، التي بلغ عددها 9 مناطق حرة حالياً، منها مدينة نصر والإسكندرية وبورسعيد، لكنها كانت محكومة بمنطق تقليدي أقرب إلى «تيسير الصادرات» لا «صناعة نموذج اقتصادي جديد»، إلى أن جاءت اللحظة المفصلية في 2015 بإطلاق مشروع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي تمتد على مساحة 455 كم²، وتشمل 4 مناطق صناعية و6 موانئ بحرية، وتستهدف جذب استثمارات تفوق 12 مليار دولار بحلول 2030.
لكن عامل التوقيت ليس وحده ما يصنع الفرق، فالرؤية الاستراتيجية الحاكمة تُعد أكثر حسماً في تفسير التباين بين النموذجين، ففي دول الخليج ارتبطت المناطق الاقتصادية بخطط تنموية كبرى موحدة وواضحة، مثل رؤية السعودية 2030، التي تستهدف رفع نسبة مساهمة القطاع غير النفطي إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة مساهمة المناطق الاقتصادية الخاصة بـنحو 25 مليار دولار سنوياً بحلول 2030، أما في الإمارات، فوفقاً لتقرير الحكومة الاتحادية لعام 2024، فإن المناطق الحرة في الدولة –وعددها يزيد على 40 منطقة– تمثل أكثر من 30% من حجم التجارة غير النفطية، وتستقطب أكثر من 60% من الشركات الأجنبية العاملة بالدولة، أما في مصر رغم إدراج مشروع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ضمن المشروعات القومية الكبرى، فإن غياب الربط الحقيقي بين المناطق الاقتصادية وبقية السياسات القطاعية يجعل التجربة حتى اللحظة مجزأة، وتفتقر إلى التكامل الضروري الذي يحولها من نموذج محلي إلى منافس إقليمي.ولا يقل المشهد التنظيمي أهمية عن الاستراتيجية، فالقوانين التي تنظم عمل المناطق الاقتصادية في الخليج تتميز بقدر هائل من المرونة والوضوح والاستقرار، ففي كثير من تلك المناطق يُسمح بملكية أجنبية 100%، وهناك إعفاءات ضريبية تصل إلى 50 عامًا في بعض الحالات، وتأسيس الشركات لا يستغرق أكثر من 3 أيام إلكترونياً في معظم المناطق بالإمارات، والسعودية دشّنت بوابة «استثمر في السعودية» التي تختصر تأسيس الكيانات إلى أقل من 5 خطوات، أما في مصر بالرغم من قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017، وقانون المناطق الاقتصادية الخاصة رقم 83 لسنة 2002 المعدل، فإن المستثمرين لا يزالون يواجهون في المتوسط أكثر من 18 إجراء للحصول على الموافقات الأولية، وتستغرق دورة الترخيص بالكامل ما بين 60 إلى 120 يوماً في بعض الحالات.ويتعقد هذا الفرق أكثر حين ننتقل إلى مستوى البنية التحتية والربط اللوجستي، فدول الخليج لم تكتفِ بتقديم أراضٍ مرفقة، بل أنشأت موانئ متقدمة ضمن أفضل 10 موانئ في العالم من حيث الكفاءة التشغيلية، مثل ميناء الملك عبد الله الذي بلغ حجم مناولته في 2024 أكثر من 6 ملايين حاوية، وميناء خليفة في أبوظبي الذي بلغت استثماراته 10 مليارات دولار، ويخدم أكثر من 25 مليون طن من البضائع سنوياً، في المقابل تعمل مصر على تطوير ميناء السخنة، الذي سجل في 2023 أكثر من 600 ألف حاوية نمطية، وتسعى الدولة لزيادة قدرته إلى 3.5 مليون حاوية سنوياً بحلول 2030، ضمن خطة متكاملة لتطوير موانئ المنطقة الاقتصادية باستثمارات تتجاوز 3.5 مليار دولار.الأمر اللافت كذلك هو مسألة التخصص، فعلى العكس من النمط العام الذي تميل فيه مصر إلى إنشاء مناطق اقتصادية متعددة الأغراض، تتجه دول الخليج إلى إنشاء مناطق متخصصة، مثل مدينة مصدر التي جذبت أكثر من 2.5 مليار دولار في استثمارات الطاقة النظيفة، أو مدينة الملك سلمان للطاقة (سبارك) في السعودية، التي بلغت قيمة استثماراتها 6 مليارات دولار حتى منتصف 2025، وتضم أكثر من 100 مشروع صناعي متقدم، هذا التخصص يُسهم في جذب مستثمرين نوعيين، ويخلق شبكات من التوريد والخدمات المتكاملة داخل المنطقة نفسها، أما في مصر فلا تزال المنطقة الاقتصادية تعمل بمفهوم «الأنشطة المتنوعة»، حيث تشكل الصناعات الخفيفة نحو 63% من إجمالي التراخيص الممنوحة، مقابل 7% فقط للصناعات عالية التقنية.أما من حيث الأثر على التوظيف ونقل التكنولوجيا، فإن المناطق الاقتصادية في الخليج، بحسب تقرير البنك الدولي 2024، تسهم بما يتراوح بين 18% و25% من فرص العمل الجديدة في القطاعات غير النفطية، وبدأت تفرض نسب توطين للوظائف تتراوح بين 10% و35% حسب النشاط، بينما في مصر تشير بيانات المنطقة الاقتصادية لقناة السويس إلى خلق نحو 100 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة منذ إطلاق المشروع، لكن أغلبها يتركز في الأنشطة الخدمية والإنشائية، في حين لا تزال الصناعات التكنولوجية والدوائية تستحوذ على أقل من 5% من إجمالي الاستثمارات الفعلية.ولعل النقطة الجوهرية التي تظل حاسمة في أي مقارنة هي السمعة الدولية للمناطق الاقتصادية، في هذا الجانب تتفوق دول الخليج بوضوح، فمثلاً المنطقة الحرة لجبل علي تحتل المركز الأول عربياً في تصنيف «فديكوم» العالمي للمناطق الاقتصادية، وتضم أكثر من 25% من إجمالي صادرات دبي غير النفطية، كما أن السعودية أطلقت 4 مناطق اقتصادية خاصة جديدة في 2023 وحدها، واستقطبت استثمارات أجنبية مباشرة تجاوزت 12.4 مليار دولار خلال النصف الأول من 2025، أما في مصر فرغم أن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وقّعت أكثر من 100 مذكرة تفاهم حتى منتصف 2025، فإن حجم الاستثمارات الفعلية لم يتجاوز 3.8 مليار دولار منذ 2016، ما يعكس تحدياً في ترجمة التفاهمات إلى مشروعات قائمة، وغموضاً لدى بعض المستثمرين حول جدية التنفيذ.ومع كل هذه الفروقات، ينبغي ألّا يُفهم من المقارنة أن مصر تفتقر إلى القدرة أو المقومات، بل على العكس، تمتلك مصر ما لا تملكه أغلب دول الخليج: موقعاً استراتيجياً عند ملتقى ثلاث قارات، قناة السويس التي يمر منها 12% من التجارة العالمية، سوقاً محلياً ضخماً يزيد على 110 ملايين نسمة، وتكاليف إنتاج تقل بنسبة 30% على الأقل عن المتوسط الخليجي في العديد من القطاعات، لكن تبقى المشكلة في آلية تفعيل هذه المقومات، وتقديمها في قالب استثماري عصري وموحد ومتكامل، وإذا استطاعت الدولة المصرية أن تحسم قضايا الحوكمة المؤسسية، وتوحيد الرؤية، وتسريع الإجراءات، وتطوير منظومة التسويق والتخصص، فإن المناطق الاقتصادية المصرية لن تكون فقط منافساً، بل لاعباً إقليمياً قوياً قادراً على إعادة رسم الخريطة الاقتصادية في شرق المتوسط وشمال إفريقيا.المناطق الاقتصادية ليست مجرد أراضٍ صناعية أو خدمات لوجستية؛ هي رافعة اقتصادية، ونموذج اختباري، ومعمل لصياغة المستقبل، والخليج أدرك هذه الحقيقة مبكراً واستثمر فيها بذكاء، أما مصر فإن الفرصة لا تزال أمامها، لكنها تحتاج إلى قرارات أكثر جرأة، وأدوات أكثر حداثة، وإرادة تنفيذية لا تكتفي بوضع القوانين بل تراقب تطبيقها وتقيس أثرها وتعيد ضبط المسار عند اللزوم، السباق لا يزال جارياً، لكن من يمتلك الرؤية الشاملة والقدرة على التنفيذ الدقيق، هو من سيتصدر. تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.