“حجر رشيد” جديد يعجّل بإنتاج الحواسيب الكمية المتقدمة

اكتشاف علمي جديد يوصف بأنه “حجر رشيد الكم”، ليس منقوشاً بالهيروغليفية، بل مكتوب بلغة الكم. ومثلما مكّن الحجر الأصلي العلماء من فك أسرار مصرية قديمة، يفتح هذا الاكتشاف الطريق لفهم أوضح للحوسبة الكمية وتحويلها من معادلات معقدة وتجارب هشة إلى تقنية أقرب للتطبيق العملي.
الخطوة قد تبدو للوهلة الأولى إنجازاً فيزيائياً دقيقاً، لكنها في الواقع قد تمهد لعصر جديد من الحواسيب القادرة على معالجة مشكلات يستحيل حلها اليوم: من اكتشاف أدوية ثورية إلى بناء أنظمة تشفير لا يمكن اختراقها، أو تطوير ذكاء اصطناعي أكثر قوة وفاعلية.
وأعلن باحثون من جامعة سيدني، قبل أيام، نجاحهم لأول مرة في تشغيل الأوامر الأساسية لأي حاسوب – المعروفة بالبوابات المنطقية – باستخدام ذرة واحدة فقط بدلاً من أجهزة ضخمة ومعقدة. بمعنى آخر، تمكنوا من ضغط العمليات الحسابية الكمية في أصغر مساحة ممكنة، بل خزنوا معلومتين كميتين داخل أيون واحد، وجعلوهما تعملان معاً في انسجام، ما يعد خطوة كبيرة نحو حواسيب كمية أكثر بساطة وواقعية.
أُعدت هذه الدراسة في مختبر التحكم الكمي بجامعة سيدني -معهد سيدني للنانو، بقيادة الدكتور تينغري تان، وبمشاركة طالب الدكتوراه فاسيلي ماتسوس من كلية الفيزياء. اعتمد الفريق على خبراتهم في التحكم الدقيق باهتزازات الأيونات المحبوسة، مستخدمين برمجيات طورتها شركة Q-CTRL الناشئة المنبثقة عن المختبر نفسه.
من جهته، قال الدكتور تينغري تان، قائد الفريق البحثي في جامعة سيدني في بيان صحافي: “استطعنا لأول مرة تشغيل مجموعة كاملة من العمليات الأساسية للحوسبة الكمية باستخدام ذرة واحدة فقط، عبر التحكم باهتزازاتها الطبيعية بدقة شديدة، وهو ما سمح لنا بمعالجة المعلومات الكمية وتشابكها داخل الذرة نفسها”.
وأضاف: “لطالما كانت هناك وعود بأن هذه الطريقة ستقلل من حجم الأجهزة المطلوبة لبناء الحواسيب الكمية. واليوم أثبتت تجاربنا أن ذلك ممكن بالفعل، وأنه يمكن التعامل مع أكثر من معلومة كمية في وقت واحد بكفاءة أكبر بكثير”.
الدكتور تينغري تان (يسار) مع طالب الدكتوراه فاسيلي ماتسوس داخل مختبر التحكم الكمي في معهد سيدني للنانو بجامعة سيدني – (فيونا وولف/جامعة سيدني)
حجر رشيد الكم
لفهم أهمية هذا الإنجاز، يمكن النظر إلى الفرق بين الحواسيب التقليدية والكمية. الكمبيوتر العادي يخزن المعلومات في شكل “بتات” تأخذ إما قيمة صفر وإما واحداً. أما الحاسوب الكمي فيستخدم “كيوبتات” تستطيع أن تكون صفراً وواحداً في الوقت نفسه. هذا يمنحه قوة هائلة، لكنه يجعله هشاً للغاية وسهل الخطأ. لتجاوز هذه المشكلة، كان العلماء يكررون المعلومة نفسها على كيوبتات كثيرة جداً، وهو ما يجعل الأجهزة كبيرة ومعقدة.
الحل الذي اعتمده فريق سيدني جاء عبر ما يعرف بـ شيفرة GKP، التي يسميها العلماء “حجر رشيد الكم”. هذه الشيفرة تعمل مثل قاموس يترجم الاهتزازات الغامضة داخل الذرة إلى رموز أوضح وأقرب الى لغة الأرقام، بحيث يسهل التعرف على الأخطاء وتصحيحها. وبفضلها، استطاع الباحثون تخزين المعلومات في اهتزازات ذرة واحدة والتحكم فيها بالليزر، وتشغيل بوابات منطقية كاملة بطريقة عملية.
هذا النجاح يوضح أن الحوسبة الكمية قد لا تحتاج إلى آلاف المكونات الهشة والمعقدة كما كان يعتقد، بل يمكن أن تصبح أصغر وأكثر استقراراً. وإذا شهدت هذه التقنية مزيداً من التطوير، فقد نشهد حواسيب كمية فائقة السرعة.
تصوّر فني يوضح البوابة المنطقية الكمية المتشابكة التي طورها باحثو جامعة سيدني باستخدام شيفرة GKP – (فيونا وولف/جامعة سيدني)
ربع قرن من البحث
طريق العلماء نحو هذا الإنجاز العلمي كان طويلاً، بدأ منذ قرابة 25 عاماً، حين طور ثلاثة باحثين نظرية تعرف باسم شيفرة GKP، وهي أشبه بطريقة جديدة لكتابة لغة الكم تجعل قراءة الأخطاء وتصحيحها أكثر سهولة. كانت الفكرة على الورق واعدة للغاية، لكنها بقيت لسنوات طوال عصية على التنفيذ في المختبر؛ لأن الحالات الكمية التي تقوم عليها دقيقة جداً، وتتطلب مستويات شبه مثالية من التحكم.
على مدار العقد الأخير بدأت ملامح هذه النظرية تتحول إلى تجارب واقعية، إذ نجح باحثون في أوروبا وأميركا في إثبات أجزاء منها، سواء عبر أجهزة فائقة التوصيل أو باستخدام أيونات محبوسة. غير أن تلك النجاحات ظلت محدودة، واقتصرت غالباً على تشغيل كيوبت واحد أو تصحيح بعض الأخطاء البسيطة.
غير أن ما فعله فريق جامعة سيدني يختلف جذرياً، إذ تمكن للمرة الأولى من دمج بوابات منطقية كاملة مع تشابك كيوبتين منطقيتين داخل ذرة واحدة، ليضع النظرية أخيراً أمام اختبار عملي حقيقي.
ورغم أن هذا الإنجاز لا يعني أننا وصلنا بعد إلى حاسوب كمي كامل، فإنه يقدم برهاناً قوياً على أن شيفرة GKP لم تعد مجرد نظرية جذابة، بل أداة قابلة للتطبيق. والأهم من ذلك أنه يثبت إمكان تقليص الموارد اللازمة لتشغيل العمليات الحسابية، وهو ما قد يختصر الطريق نحو أجهزة كمية أكبر وأكثر استقراراً، قادرة على إحداث نقلة نوعية في مجالات تمتد من اكتشاف أدوية جديدة إلى ابتكار تقنيات تشفير لا يمكن اختراقها، وصولاً إلى بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تقدماً.