السرقات الإبداعية غير المرئية… أفعال تتجاوز العقاب

السرقات الإبداعية غير المرئية… أفعال تتجاوز العقاب

بين يوم وآخر، تتكشف حالات سرقة إبداعية ظاهرة، بسطو أديب على جهد أديب آخر، واعتداء تشكيلي على الحقوق الملكية لغيره من موطنه أو من بلد غيره، وانتهاك ملحّن عملاً موسيقيّاً منسوباً إلى مؤلف آخر ومسجّلاً باسمه.

ورغم انتشار هذه الحالات، من السهولة فضحها، وضبط مرتكبيها ومحاسبتهم، وإعادة الحقوق إلى أصحابها وفق القرائن الثابتة والواضحة. ولكنْ ماذا عن تلك النوعية الخاصة من السرقات الإبداعية التي لا يمكن اكتشافها، ولا توجد آلية لإثباتها؟

والمقصود بتلك الجرائم الإبداعية الخفية: سرقة روح المبدع، وأسلوبه، وثيمته، ومدرسته، أي السرقة بالتقليد الذكي، وليس بالنقل المباشر، كمن يوصفون بأنهم تلاميذ نزار قباني مثلاً أو النزاريون في كتاباتهم، وكمقلّدي أدونيس، ومُستنسخي محمود درويش، ومنتحلي الأخوين رحباني أو بليغ حمدي في الموسيقى، وغيرهم ممن يقتاتون على منجزات الآخرين ومشاريعهم المتحققة.

في هذا التحقيق، تستطلع “النهار” تجارب مجموعة من المبدعين والنقاد العرب، حول مدى استشعارهم ذلك الانتحال الخفي، سواء في أصداء أعمالهم لدى مؤلفين آخرين، أم بشكل عام في المشهد العربي المحيط الذي لا يخلو من الظاهرة. 

كذلك يثار سؤال آخر مهم: كيف يكون الموقف الملائم الذي يتخذه المبدع الذي تتم سرقته، وليس لديه إمكان لرفع قضية لغياب الأدلة الملموسة؟ وهل لا توجد أزمة حقيقية، إذا اعتبرنا أن النسخة المقلدة لا قيمة لها، بل لعلها تشير بدورها إلى الأصل الحقيقي، وترفع قيمته؟

نقل التفاصيل
تعتبر القاصة والمترجمة والمخرجة العراقية بثينة الناصري أن روح المبدع ليس من الممكن سرقتها لأنها خاصة به، ولكن الأسلوب قد يُنتحل، بمعنى تقليد المدرسة. وإذا كانت الثيمة الإنسانية المشتركة لا يمكن الجزم بسرقتها، فإن الشيطان يكمن في نقل التفاصيل.

وتتذكر الناصري واقعة سرقة حدثت معها، بقولها: “عام 2022، درستُ السينما لأحول قصصي إلى أفلام قصيرة أخرجها بنفسي. كان أول فيلم لي عن قصتي: حظ السلاحف، وثيمتها اعتقاد البعض أن اقتناء التمائم يجلب الحظ. وهكذا، فأسرة مسافرة بسيارتها تجد سلحفاة صغيرة، مما يعتقد الناس أنها تجلب الحظ، فيأخذونها معهم. وفي النهاية تتسبب السلحفاة بانقلاب السيارة وموت الجميع إلا هي، إذ تخرج من الركام ناجية وحيدة”. 
وبعد عرض الفيلم، وفق الناصري، تنبهتْ إلى أن القصة بكل تفاصيلها وحوارها وشخصياتها ظهرت لاحقاً في حلقة لفنان سوري شهير، على يوتيوب. وتوضح: “شاهدتُها بنفسي، وفيها كل تفاصيل قصتي، مع تغيير الخاتمة فقط، إذ تتعطل السيارة، وتقف الأسرة مننتظرة مرور وسيلة مواصلات تنقذها. وهكذا تتجلى السرقة بأخذ التفاصيل، ولكن كيف يمكن إثباتها؟”.

تأثير غير مشروع
ويلتقط خيط الحديث الشاعر والكاتب المصري إبراهيم عبد الفتاح، بقوله: “ستشعر بالانتحال الخفي إلى مدى يُشبه رؤية ظلك على جسدٍ لا يشبهك، الأمر لا يتعلق بوهم التفرد، بل بذاكرة الأسلوب. أستشعره؟ نعم. أحياناً في جملة مقتولة الإيقاع كتبتُها كصرخة، وأحياناً في نص يتقمص لوني لكن من دون ألمي”.

 

مشهد من مكتبة عامة. (وكالات)

 

ويرى عبد الفتاح أن هذا ليس تأثيراً مشروعاً، بل استعارة باهتة لا تُنسب، ويستطرد: “في تقديري، بشأن الموقف الملائم للمبدع الذي تتم سرقته أسلوبيّاً، أنه إذا كان السارق ذكيّاً بما يكفي لئلا يقع في فخ النص الحرفي، فلا قوانين تحمي المؤلف، ولا أدلة كافية لتدين أحداً. والموقف الأمثل هو الجمع بين الاستمرار والتجاوز، أن تكتب أكثر، أن تعمّق أسلوبك، أن تجعل تقليدك أكثر صعوبة”.

ومن يقول إن النسخة المقلّدة ترفع قيمة الأصل، وفق عبد الفتاح، فربما ذلك على الورق، ولكن في الواقع، قد لا يحدث ذلك غالباً. لأن النسخ تُستهلك، وتُنسى، بينما الأصل إن لم يكن حاضرًا، متجدداً، يضيع في الضجيج. بل الأخطر أن النسخة قد تُقدَّم لجمهور جديد لا يعرف الأصل، فتصبح هي الحقيقة الوحيدة المتاحة.

تبرير الجريمة
تتحفظ الروائية والكاتبة المصرية مي التلمساني عن تعميم السرقة الأدبية على كل أشكال التناص، بخاصة حين يقبل الكاتب على فتح قناة حوار مع النص الملهم للعمل، ويعترف به. أما السرقة الأدبية، فرغم كونها مجرمة قانوناً، فإنها تتم تحت أعين المؤلفين والناشرين، وتجد من يبررها.

وتشير  إلى تعرضها لسرقة روايتها “أكابيللا” التي نشرتها في مجلة “روز اليوسف” المصرية عام 2010، ثم في كتاب عام 2012. وتقول: “تمت السرقة بعد صدورها بأعوام، وتواصلت مع الكاتبة لتنبيهها، ولكنها لم ترتدع، ونشرت العمل كرواية ثم كمسرحية. وقررتُ عدم اللجوء إلى القضاء أو الإعلام، واتهام السارقة علناً، فالنص السارق ضعيف ومهترئ، ولن يصمد أمام الزمن”.

وترى الكاتبة المصرية أن السارق دائماً مكشوف ومفضوح، لأن عمله معلن. وإن عاجلاً أو آجلاً، سيأتي من يقرأ، ويدرك كيف تمت سرقة الموضوع، وأيضاً الأسلوب والثيمات الرئيسية.

مواجهة جادة
ويرى الروائي والمسرحي والأكاديمي المصري أستاذ النقد الأدبي د. مصطفى عطية جمعة أن “ظاهرة السرقات الأدبية تمددت وتعددت أشكالها وأنماطها في عصرنا الحاضر، مع انتشار الذكاء الاصطناعي وتقنيات الحاسوب. وتظل المشكلة الأساسية في غياب أخلاقيات الأمانة العلمية، وضعف تطبيق قوانين الحماية الفكرية، وبطء إجراءات التقاضي، إلى جانب سلبية المبدعين أنفسهم، ووجود من يغطي على السارقين، بدعوى جواز الاقتباس والتأثير”. 

ويطالب بإجراءات يجب تفعيلها “أولها: إيجاد حالة تنويرية برفض هذا العمل، خصوصاً مع ازدياد ظاهرة من يكتبون الرسائل العلمية بأجر، ومن يكتبون الإبداع ويُنسب إلى غيرهم. وثانيها: أهمية وجود خبراء على أعلى مستوى، وفق برامج تدريبية، وتفعيل منظومة الحماية القضائية للمنتج الإبداعي والفكري. وثالثها: أنه ينبغي على المبدع الإشارة إلى من تأثّر بهم، احتراماً للأمانة الفكرية والإبداعية”.