حملة إعلامية واتهامات صارمة من طهران تجاه موسكو

حملة إعلامية واتهامات صارمة من طهران تجاه موسكو

د. خالد العزي

 

شهدت الساحة السياسية الإيرانية منذ حزيران/ يونيو 2025 تصعيداً غير مسبوق في العلاقة مع روسيا، بعد اتهامات وجّهها محمد صدر، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، إلى موسكو.

 

ففي تصريحات صحافية مثيرة، أعلن محمد صدر، منسق العلاقات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني، أن “روسيا زوّدت إسرائيل بمعلومات عن مراكز الدفاع الجوي في إيران”، مُؤكداً أن “هذه الحرب بيّنت أن التحالف الاستراتيجي مع موسكو لا قيمة له”. كانت تلك الحرب القصيرة، التي استمرت 12 يوماً فقط، قد اهتزت خلالها بنية الردع الإيرانية، بعدما استهدفت الضربات الإسرائيلية مراكز حسّاسة في إيران. ورغم الرد الإيراني بالصواريخ، استمر الهجوم الإسرائيلي في زعزعة توازن القوة في المنطقة.

 

لكن الاتهامات لم تتوقف عند هذا الحد. فقد تطرق صدر إلى قضية أخرى، وهي اغتيال الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي. واعتبر أن إسرائيل كانت وراء هذا الاغتيال، قائلاً: “منذ اللحظة الأولى قلت إن هذا اغتيال… من عمل إسرائيل”. وفيما بدا أن كل شيء تغيّر في المعادلة الإيرانية، كانت رسالة إسرائيلية ضمنية تلوح في الأفق: “إذا واصلت طهران، فنحن أيضاً سنواصل العمل ضدها”.

 

خيانة الشريك: اتهامات إيرانية لروسيا بعد حرب الـ12 يوماً مع إسرائيل

 

تصريحات صدر لم تكن مجرد توجيه اتهامات عابرة، بل كانت بمثابة لحظة صدق نادرة في تقييم طهران لشريكها الروسي. مع تطوّر أحداث حرب الـ12 يوماً، كشف صدر أن موسكو قد أدّت دوراً قد يكون له تأثير سلبي على أمن إيران. فقد وصف العلاقة بين إيران وروسيا بأنها “شراكة مصلحية غير متكافئة”، لافتاً إلى أن روسيا، على الرغم من تسليمها أنظمة إس-400 لتركيا العضو في الناتو منذ عام 2019، امتنعت عن تقديم نفس الأنظمة لإيران. وأشار إلى تأجيل تسليم مقاتلات “سوخوي-35” لطهران، يعكس تردد موسكو في تقديم دعم كامل لإيران في مواجهة تحدياتها العسكرية.

 

إن مراجعة تصريحات الشخصية الايرانية الآن تأتي في سياق حرب يونيو 2025 التي كانت قصيرة في زمنها، لكنها كانت كبيرة في تأثيراتها. على الرغم من أن المواجهة قد تجمدت في النهاية على خط هدنة هشة، كانت الضربات التي نفذتها إسرائيل هائلة، وأدّت إلى استهداف شخصيات إيرانية بارزة ومنشآت حساسة. ردّت إيران بصواريخ، لكن الرد لم يكن كافياً لمواجهة التفوّق الإسرائيلي. وفي هذه اللحظة، أصبح من الواضح أن هذه المواجهة لم تكن مجرد صراع عسكري، بل كانت بداية لتغيرات سياسية كبيرة داخل إيران.

 

الشراكة مع موسكو: “لا قطيعة ولا تبعية”

 

تُظهر تصريحات المسؤول الإيراني في الحرس الثوري موقفاً ضمنياً لدولة إيران، بأن طهران لم تعد ترى في موسكو الحليف القوي الذي كان يُنظر إليه في الماضي. لم يكن التحالف مع روسيا ضماناً لأمن إيران، بل كان مجرد شراكة مصلحية، وهو ما يتضح من موقف موسكو المتردد في تقديم الدعم الكامل لطهران. وعلى الرغم من ذلك، لا تبدو إيران مستعدة لقطيعة كاملة مع روسيا، بل على العكس، كان الصرح السياسي الإيراني يوصي بضرورة الحفاظ على العلاقة “لكن بلا ثقة عمياء”.

 

هذا التوازن الحذر يعكس الواقع الذي تعيشه إيران في ظل المنافسات الإقليمية والدولية المعقدة. فمن جهة، تسعى طهران إلى تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال التنويع في مصادر التكنولوجيا والتعاون مع دول أخرى. ومن جهة أخرى، تبقى روسيا شريكاً مهماً، رغم التحديات التي تطرأ على العلاقة بين الطرفين.

 

قراءة الموقف الإيراني: ما وراء الاتهامات الموجهة لروسيا

 

هنا يمكن قراءة الموقف الإيراني بوضوح من الاتهامات الموجهة ضد روسيا بأنها “باعَت إيران لإسرائيل”. فالسؤال الذي يُطرح هو: هل بدأ الخلاف الروسي-الإيراني، وهل نحن على وشك دخول مرحلة انفصال بين الدولتين؟ وماذا تريد إيران من هذه الاتهامات؟

 

1- هل تحاول إيران تحميل روسيا مسؤولية خسارة مشروعها في المنطقة، بالرغم من عدم وجود اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، بل اتفاقيات اقتصادية؟

 

2- هل تسعى إيران للحصول على دعم عسكري متطور من موسكو لتعويض تقاعسها، واستعداداً لمعارك قد تُشنّ ضدها في المستقبل القريب، بعد تدمير جزء من دفاعاتها وصواريخها، وتراجع قدراتها اللوجستية والمالية في إعادة بناء بنيتها التحتية؟ أو ربما لتبرير مسؤوليتها عن الخسائر التي تعرّضت لها في سوريا وأرمينيا؟

 

3- هل تطمح إيران إلى وساطة روسية مع أميركا لتسريع التوصّل إلى توافق بشأن برنامجها النووي؟

 

4- هل تسعى إيران إلى التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة كبديل من علاقتها مع روسيا؟

 

5- هل ترغب إيران في أن تسمح لها روسيا بالاستمرار في التواصل مع القوى الخارجية من خلال صياغة اتفاقيات مهمة مع تركيا وأذربيجان، بعد خسارتها لأحد المنافذ الاقتصادية الحيوية التي كانت تُستخدم للالتفاف على العقوبات؟

 

تعد هذه التساؤلات محورية لفهم دقة الموقف الإيراني وتحليل دوافعها وراء هذا التصعيد الإعلامي ضد روسيا.

 

من هنا، نرى أن خسارة المشروع الإيراني لا تكمن فقط في ضرب الأذرع العسكرية، بل أيضاً في خسارتها السياسية والعسكرية في سوريا وأرمينيا. ومن هنا، تحمّل طهران خسائرها في حربها مع إسرائيل لموسكو، التي كانت حليفاً وصديقاً في الماضي.

 

روسيا في موقف معقد: التحديات الجيوسياسية

 

بالطبع، روسيا في تحالف واضح مع إيران وتمدّها بكل الإمكانيات العسكرية واللوجستية، لكن روسيا في حالة حرب في أوكرانيا وتريد تجنب إضافة مشاكل جديدة لها في المنطقة في ظل الانفراج الأميركي-الروسي الأخير. ومن جانب آخر، روسيا تتمتع بعلاقات مميزة مع إسرائيل، وهناك تنسيق عسكري عالٍ بين البلدين منذ وجود روسيا في سوريا عام 2015.

 

لكن روسيا لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل نظراً لأهمية تلك العلاقة، خاصة مع وجود مواطنين يهود يحملون الجنسية الروسية. روسيا لا تريد إثارة بنيامين نتنياهو في هذا التوقيت، إذ لا ترغب في دفع إسرائيل إلى دعم أوكرانيا عسكرياً بشكل أكبر. فضلاً عن سعي روسيا إلى الضغط على “إيباك” (اللوبي اليهودي الأميركي) لرفع الضغوط عن موسكو في حربها ضد أوكرانيا، ولا سيما في ما يتعلق بالعقوبات.

 

الرسالة الإيرانية: “لا قطيعة، ولكن إدارة محسوبة”

رسالة محمد صدر لم تكن مجرد احتجاج على السياسة الروسية، بل كانت دعوة إلى إدارة العلاقة مع موسكو بشكل “محسوب”. إيران، بحسب صدر، بحاجة إلى التوسّع في مجال المناورة مع أطراف أخرى لتقليص الاعتماد على شريك واحد قد تكون لديه حسابات أخرى. وكانت حرب الـ12 يوماً بمثابة درس سياسي وعسكري لطهران، حيث أظهرت أن الفجوة بين التوقعات والقدرة على الرد كانت أكبر من المتوقع.

 

بناءً على ذلك، فإن طهران تجد نفسها اليوم أمام خيار صعب: الاحتفاظ بعلاقة قوية مع روسيا، ولكن في الوقت نفسه توخي الحذر من تقلبات السياسة الروسية ومراعاة حسابات موسكو مع إسرائيل والغرب. هذه هي الدينامية المعقدة التي تحكم الآن العلاقات بين إيران وروسيا، خاصة في ظل التحديات الأمنية والتقنية التي تواجهها طهران.

 

مرحلة جديدة من العلاقات المعقدة

إن العلاقة بين طهران وموسكو لم تعد كما كانت في السابق، بل دخلت مرحلة من التوتر والشكوك المتبادلة، تتأرجح بين التعاون الحذر والبحث عن بدائل. إيران الآن تواجه تحديات معقدة في إطار سعيها لتأمين مصالحها الاستراتيجية في منطقة مضطربة، وهي مدركة أن الحفاظ على علاقاتها مع موسكو قد يحتاج إلى إعادة تقييم شامل لتوازنات القوة الإقليمية والدولية.

 

– المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.