“عمى الذاكرة” لحميد الرقيمي: رحلة الروح المت fragmented من صنعاء إلى البحر الأبيض المتوسط

يكتب حميد الرقيمي في “عمى الذاكرة” بمدادٍ لا يجفّ من دموع الحرب ولا ينقطع عن وجع الفقد. رواية تفتتح بانفجار يولد معه البطل “يحيى” أو “بدر”، ومنذ تلك اللحظة يصبح الوجود كله مسكوناً بانشطار الذاكرة والهويّة. ذاكرة مشوّهة، معلّقة بين الأشلاء والأطلال، لا تستيقظ إلا على وقع قذيفة أخرى، لتكتشف أن الحرب ليست حدثاً عابراً بل مرضاً عضالاً يسكن الروح والجسد معاً.
في هذا النص، الذي بلغ القائمة الطويلة لجائزة كتارا للرواية العربية، يتجلّى اليمن بلداً ممزقاً، يودّع أبناءه على ظهر قوارب مهترئة، في رحلة لا تشبه إلا تغريبة قديمة متجددة: من صنعاء المصلوبة على جدران الموت، إلى عدن التي تصبح بوابة عبور لا ملاذاً، إلى القاهرة حيث اليمني يبحث عن ظل نجيب محفوظ في أزقة بولاق فلا يجد إلا مرآة منفاه، ثم الخرطوم، فصحراء ليبيا، وصولاً إلى البحر الذي يبتلع الأحلام والوجوه واللغات.
الرواية ليست مجرد رصد لحروب وجغرافيا مدمّرة، بل هي سيرة جيل عربي محاصر بين حطام البيوت وحطام السفن، جيل خرج يبحث عن ذاته ليجد نفسه مطارداً بالذاكرة المبتورة والهوية الممزقة والحب المستحيل. هنا، تغدو الحبيبة “يافا” رمزًا للحلم المؤجل، للروح التي لم تمسها الحرب لكنها تظل بعيدة كمدينة أسطورية، فيما تتحول كلمات الجد إلى دستور للحياة وسط الخراب: “الحرب التي لا تغيّر آدمية البشر سهلة وعابرة”.
لغة الرقيمي في “عمى الذاكرة” لغة شعرية، غنائية، تمزج الحسرة بالحنين، والرماد بالأمل، فتكتب مآسي الحرب كما لو كانت لوحات مرسومة بالدمع. لا زمن محدد للرواية، فالحرب عنده عابرة للأجيال، تتكرر بوجوه مختلفة، تحيل الذكريات إلى أطلال، وتحوّل الحب والبيت والبلدة إلى أشلاء متفرقة.
الإعلامي والكاتب حميد الرقيمي (فيسبوك)
ما يميز هذه الرواية أنها تخرج من حدود الصحافة إلى فضاء الأدب، فالكاتب يحوّل تجربته الميدانية إلى ملحمة إنسانية واسعة، فيها من الشعر ما يكفي لتثبيت الألم في الوجدان، وفيها من الواقعية ما يكفي لجعل القارئ شريكاً في المعاناة.
في مقطع من الرواية، يصف الرقيمي البحر كأنه “فم مفتوح يبتلع أبناءه واحداً تلو الآخر”، حيث تتحوّل المراكب إلى توابيت عائمة، ويغدو الأمل مجرد قشة يتشبث بها الغريق. هنا، يصبح البحر شاهداً أخرس على جريمة العصر: جريمة اقتلاع الإنسان من جذوره ورميه في المجهول.
وفي موضع آخر، يكتب: “الوطن الذي كان يشبه بيت الطفولة لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة، لكن حتى الذاكرة باتت عمياء لا ترى إلا صور الخراب”. بهذا المعنى، الذاكرة نفسها تصاب بالعطب، إذ تعجز عن حفظ صورة الوطن الجميل، وتظل أسيرة الدخان والركام.
ولا يغيب البعد الإنساني والعاطفي عن النص، إذ تتداخل قصة حب مبتورة مع مشاهد الحرب والمنفى. الحبيب الذي ينتظر عند الميناء لا يعود، واللقاء المؤجل يذوب مع غروب الشمس فوق المتوسط. وكأن الرقيمي يريد القول إن الحرب لا تكتفي بقتل الجسد، بل تسطو أيضا على القلب والذاكرة.
أمّا رحلة البطل من صنعاء إلى عدن ثم القاهرة والخرطوم وليبيا وأخيراً المتوسط، فإنّها ليست مجرد رحلة جغرافية، بل رحلة داخلية للبحث عن الذات والكرامة. الرقيمي يصف الرحلة كأنها سلسلة من المحطات التي تختبر صبر الإنسان، فتقذفه الحياة من قارب متهالك إلى آخر، ومن حلم إلى كابوس، حتى يبدو أن كل خطوة على الأرض أو الماء تعيد تشكيله من جديد.
“عمى الذاكرة” ليست فقط رواية عن اليمن، بل عن العربي التائه في القرن الحادي والعشرين: عربي يركب البحر لا لينجو بل ليعيد تعريف معنى النجاة، عربي يسأل في عيادة غريبة: “هل كان الأمر يستحق؟” ثم يبكي لأن الجواب لا يحتمل أكثر من دمعة.
إنها رواية عن أمة تبحث عن مرآتها في وجوه الغرقى والمنفيين، عن وطنٍ يتشظى في الذاكرة، وعن قلوبٍ لا تجد إلا البكاء سبيلاً للنجاة.