تقديم ليبيا من منظور روجر بيكن

مصدر آخر من مصادر تاريخ وجغرافية أفريقيا أو ليبيا وأصول سكانها ومستوطنيها وحروبها في العصور القديمة. المصدر الذي أمامي هو كتاب العمل الأكبر للإنجليزي روجر بيكن، الذي قابلني على رف مكتبة شعبية في كوين ستريت بتورنتو في الثمانينيات.
العمل الذي أستقي منه مصادري هنا، نسخة مترجمة (لروبرت بل بورك)، أستاذ اللغة اللاتينية وعميد كليتها بجامعة بنسلفانيا، صادرة بالإنجليزية عام 1928 عن مطبعة جامعة بنسلفانيا ومن جزئين، الأول، كتاب الرياضيات ويشمل أبواباً عن الفلسفة وعلوم الدين والعلوم الطبيعية والألسن والجغرافيا ووصف البلدان والتاريخ والرياضيات، أما الجزء الثاني من المؤلف فيتكون من فصول عن البصريات والصوتيات والاختبارات وينتهي بفصل دسم عن فلسفة الأخلاق. ذخيرة من الجواهر العلمية ومعيار لقياس درجة الوعي عند الكنيسة وعند المؤلِف والقراء آنذاك، في منتصف القرون الوسطى.
ألّف الراهب الفرنسيسكاني الدكتور روجر بيكن عمله الموسوعي الأكبر «OPUS MAJUS» باللاتينية قبل منتصف القرن الثالث عشر للميلاد بقليل وكان ينوي أن يهدي عمله المحيط إلى (البابا كليمنت) لكن البابا مات قبل وصول الهدية وبقيت نسخ من عمله الموسوعي سجينة رفوف مكتبة جامعة باريس وجامعة أكسفورد ومكتبة الفاتيكان إلى أن تم اكتشافها في عصر النهضة وطباعتها وانتشارها لتساهم في ظهور بشائر المنهج العلمي الحديث.
شدني في هذا العمل الكبير الفصل الأول من الكتاب، خاصة باب الحساب والرياضيات وباب الضوئيات والصوتيات، وهذا ما قادني إلى بقية الأبواب التي اهتمت بوصف العالم، جغرافياً وإثنياً ولغوياً، ومنها وصف مصر وليبيا وأفريقيا ونوميديا وجزيرة العرب وأرض المور – من ليبيا المريوطية/برقة إلى ليبيا الطنجية/المغرب الأقصى.
وصفه لليبيا (أفريقيا) اختص بالحديث عن عصر قديم وأقدم بكثير من نزول المهاجرين الإغريق على شواطئ برقة، ربما وقت الممالك المصرية الوسيطة وبداية التدوين التوراتي قبل ظهور الإلياذة. يدل هذا على أن الراهب بيكن، وليس سالوست أو هيرودوت، هو أول من تطرق إلى تاريخ ليبيا القديمة قبل غيره، لكنه لم يستشهد بالمخطوطات والكتابات المصرية القديمة أو الإغريقيّة.
بعد وصفه الشامل لمصر يستهل روجر بيكن طريقه إلى أفريقيا من (برقة المريوطية) التي اعتمد في جل وصفه لها على المؤرخين القدماء مثل (پلني) أو، ممن كتبوا عن الحروب البونية وأرخوا ليوغرطه وجوبا، مثل المؤرخ (سالوست)، والمؤرخ الجغرافي التوراتي (جيروم) الذي ترك لنا «معجم الأماكن» وكذلك المؤرخ (هچسيبيوس) في عمله الكبير «تاريخ جيروساليم».
حسب روجر بيكن، أفريقيا مملوكة للشعوب الليبية ولشعوب (الچيطول)، التي جاءت بالبحر من الشمال، من بلاد الچيتاي، حسب المؤرخ (ايسادور) والمؤرخ (هيچوسيو) أما المؤرخ (جيروم) فيقول إنهم أحفاد فيلا بن خوص بن حام بن نوح وفي هذا الشأن يؤكد: أفريقيا كانت ممنوحة إلى أبناء حام مثلما هي مصر وإثيوبيا. الليبيون هم أبناء ليبايم بني مصرايم بني خوص بني حام مثلما يشير المؤرخ جيروم في تاريخه وأن كلمة ليبيا جاءت من اسم ليبايم.
سوف يلاحظ القارئ بسرعة، بعد 8 صفحات من القطع الكبير حول ليبيا وإفريقيا القديمتين، تجنب المؤلف ذكر الإلياذة أو هيرودوت أو أي من الروايات الإغريقية غزيرة الوصف لأفريقيا وليبيا وقورينا وسرت الكبير والصغير ويقدم بدلها نوادر توراتية تاريخية بعيدة، منها قصة قيام ملك آشور بنقل سكان دمشق، أقدم مدن العالم، ونفيهم إلى برقة، ولكنه لم يذكر لنا اسم هذا الملك. ويذكر أيضاً ملحمة القرطاجيين ضد الإغريق المعروفة بمواجهة العدو الطويل بين الإخوة فيليني والعدائين الإغريق لترسيم الحدود ويذكر قصة سيمون البرقاوي مستشهداً بمصادر توراتية ومن العهدين، ويشير إلى اتساع شهرته وتسامحه النصراني، كذلك عن تسمية الشرق الليبي بليبيا المريوطية والغرب بأفريقيا وروايات أخرى تخص سرت الكبير ورماله وأمواجه. وسرت الصغير قبل ظهور المدن الثلاث.. وكان اهتمامه منصباً فقط على الآيات التوراتية ومعاجم البلدان قبل قدوم عصر النهضة، أي أن هذه المعلومات كانت متوفرة لدى الكنيسة الكاثوليكية عام 1250 للميلاد.
يكتب روجر بيكون: سميت أفريقيا وكنيت إلى أحد أحفاد إبراهيم المدعو عافر كما ذكر جيروم في سفر التكوين، والذي قيل إنه قاد جيشًا ضد ليبيا، واستقر هناك بعد قهر أعدائه، وأطلق على أحفاده اسم الأفارقة وبلاد أفريقيا، التي كانت تسمى سابقًا ليبيا وحملت في البداية اسم يافث من أبناء حام.
فقرة أخرى يصف فيها ليبيا في القرون الأولى كالتالي: لكن، كما يقول سالوست، بعد وفاة هرقل في إسبانيا، تفرق جيشه المكون من أعراق مختلفة. ومن بين هؤلاء، هاجر الميديون والفرس والأرمن إلى أفريقيا بالسفن، واستولوا على المناطق المطلة على بحرنا، لكن الفرس استوطنوا في الداخل وأقرب إلى مصر وإيطاليا من الساكنين قرب البحر في عهد الچيطول، لأنهم كانوا أقرب إلى الشمس، وكانوا قريبين من إثيوبيا. اتحد هؤلاء تدريجيًا مع الچيطول بالزواج. ويستنتج، علاوة على ذلك، أنه بسبب تجاربهم المتكررة في حقول جديدة، بحثوا عن أماكن أخرى بعد ذلك، أطلقوا على أنفسهم اسم النوميديين، أي شعب يتجول ويهيم بلا مدينة. سكن الميديون والأرمن وراء ساحل بحرنا، من النوميديين حتى جبل طارق في عهد الليبيين، الذين انحصروا وراءهم جنوبًا نحو الإثيوبيين، لكن الليبيين حرفوا تدريجيًا اسم النوميديين وأطلقوا عليهم اسم المور، بلغتهم البربرية.
وفي الختام، موسوعة (العمل الأكبر) كما دونها القس الإنجليزي روجر بيكن في القرن الثالث عشر للميلاد في كتابه العمل الجامع هي مصدر علمي وتاريخي مهم، خزنته الذاكرة الكنسية اللاتينية وحفظته منذ القرون الوسطى.. وقد اعتنت هذه الموسوعة العلمية في باب كامل من الجزء الأول بتاريخ ليبيا/إفريقيا القديمة.
إن دراسة نص هذا الباب، بل النص كله والرجوع إليه مهم لطلاب التاريخ وللباحثين عن جذور الهوية الليبية. كذلك، من البديهي أن إضافة هذا المصدر إلى المصادر المتعددة التي يستقي منها المؤرخ مادته قد تفيد في تصحيح بعض حوادث التاريخ لأنه مصدر موثوق به يتوفر للبحاثة ومحبي تاريخ ليبيا القديم ونجد في نصوصه قصصا عن أصل تسمية ليبيا ونوادر وأكاذيب ومبالغات تاريخية، لكن للأسف، لم يقم روجر بيكن بالتأريخ لليبيا في عصره الذي عاش فيه، القرون الوسطي 1200م إلى 1300م ولو فعل هذا لكان قد غطى مجاهيل تاريخية كبيرة نسي ذكرها المؤرخون. أيضاً نستطيع بعد قراءة هذا المصدر التاريخي المهم، معايرة ومقارنة الزاهد الكاثوليكي روجر بيكن وعلمه القروسطي، بعلماء مسلمين أفذاذ أذكر منهم يحيى بن عدّي، وابن رشد، وابن باجه، والكندي، والفارابي.