إبليس والبشر: الوحي كمصدر أساسي للإنسانية

إبليس والبشر: الوحي كمصدر أساسي للإنسانية

بندر بن عبدالله بن محمد

نزّل الله على نبيه محمّد ﷺ وحياً بكتابه الكريم، وأمرنا أن نتفكر ونتدبر فيه، فهو أعظم مرجع لنا نحن البشر. قال تعالى ﴿…قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: ١٥-١٦). وقد أخبرنا الله أن جماعة من الجن استمعوا إلى القرآن فقالوا ﴿…إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ…﴾ (الجن: ١-٢).
لكن لم يؤمن الجن جميعاً، بل قالوا عن أنفسهم ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُو۟لَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ (الجن: ١٤-١٥).
إذن هم مثل البشر: فريق مؤمن وفريق كافر.
أصل إبليس
القرآن يوضح أن إبليس لم يكن ملكاً كما ظن بعض الناس، بل كان من الجن ﴿…إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ…﴾ (الكهف: ٥٠). ولو كان ملكاً لما عصى، فالملائكة قال الله فيهم: ﴿… لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: ٦).
إذن إبليس مخلوق من الجن، مكلَّف مثل الإنس، ومخيَّر بين الطاعة والمعصية.
موضع آدم: أي جنة؟
قال الله قبل خلق آدم ﴿…إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…﴾ (البقرة: ٣٠).
فالموضع الذي أُعدّ لآدم هو الأرض. والجنة التي أُسكن فيها لم تكن جنة الخلد، بل جنة ابتلاء؛ لأن إبليس دخلها ووسوس فيها.
أما جنة الخلد فهي دار جزاء أبدي، لا دار ابتلاء، لا يدخلها شيطان ولا تقع فيها معصية: ﴿لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ (الحجر: ٤٨).
آدم زلّ في جنة الامتحان، ثم تاب الله عليه ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ…﴾ (البقرة: ٣٧).

ما نعلمه وما لا نعلمه عن تكليف الجن
قال الله ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر: ٢٧).
لكننا لا نعلم ماذا أُمروا به قبل آدم، ولا من بعث الله إليهم من رسل. الذي قصّه الله علينا أن الرسل الذين عُرفوا كانوا رجالاً من البشر ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى…﴾ (يوسف: ١٠٩). أما قوله: ﴿…وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ…﴾ (النساء: ١٦٤)، فلم يبيّن جنسهم، والعلم عند الله. فالعقل يقف حيث وقف الوحي.
التكبر أصل المعصية
إبليس لم يسجد لآدم لأنه استكبر، وقال ﴿…أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف: ١٢). فكان الرد الإلهي ﴿ قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ﴾ (الأعراف: ١٣).أول خطيئة في الوجود كانت الكبر.
إعلان العداء
إبليس أعلن عداوته للإنسان ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف: ١٦-١٧).
لكن قوله فبما أغويتني لا يعني أن الله أغواه، بل هو الذي غوى بنفسه، فنسب الغواية إلى الله تبريراً. ومع ذلك، أبقاه الله إلى يوم الوقت المعلوم.
الوسوسة
قال الله ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ…﴾ (الأعراف: ٢٠). الوسوسة هي سلاح إبليس الأول: كلمة خفية في القلب. لكنه لا يملك أن يُكره أحداً، إنما يغري ويزيّن.
ولو كانت جنة الخلد، دار الجزاء، لما وُجد فيها إبليس يوسوس، فهي دار أمان مطلق.
مسؤولية النفس
القرآن يقرر أن النفس هي موضع التكليف ﴿…إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي…﴾ (يوسف: ٥٣). ويقول الشيطان نفسه يوم القيامة ﴿…مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ…﴾ (إبراهيم: ٢٢). فالمسؤولية على الإنسان، لا على إبليس.

إبليس شماعة الأخطاء
من عادة البشر أن يلقوا بتبعة خطاياهم على الشيطان، فيجعلونه شماعة يعلّقون عليها كل تقصير ومعصية. فإذا أخطأ أحدهم قال: “هذا من فعل الشيطان”، كأنه يبرئ نفسه من المسؤولية. لكن القرآن يكشف بوضوح أن النفس هي أصل العمل، وأن الشيطان لا يزيد على الوسوسة والدعوة. وقد حكى لنا الله مشهد يوم القيامة ليقطع الحجة ﴿…مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ…﴾ (إبراهيم: ٢٢).
فاللوم على النفس أولاً وآخراً، أما إبليس فليس إلا مثيراً للشهوة ومزيناً للباطل. ومن هنا يظهر أن تعليق الذنب كله على إبليس ظلم للنفس وتبرير للخطأ، بينما المطلوب أن يواجه الإنسان نفسه بصدق، فيعترف ويصحح.
المُخلِصون والمُخلَصون
ذكر إبليس أنه لا سلطان له على طائفة مخصوصة، فقال ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: ٨٢-٨٣).
وهنا يتضح الفرق بين لفظين دقيقين:
• المُخلِصون (بكسر اللام): الذين أخلصوا نياتهم لله اختياراً وجهداً.
• المُخلَصون (بفتح اللام): الذين صدقوا في إخلاصهم فقبله الله وأعانهم، فصاروا في حماه من كيد الشيطان.
فالإنسان يختار أن يكون من المخلِصين، فإذا صدق في إخلاصه رفعه الله إلى مقام المخلَصين. وهكذا يلتقي الاختيار البشري مع عناية الله، فيتأكد أن النجاة لا تعني سقوط حرية الإنسان، بل تلاقي جهده مع رحمة ربه.
الفرق بين إبليس وآدم
إبليس قال ﴿…فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي…﴾ (الأعراف: ١٦)، فألقى باللوم على ربه. أما آدم فقال ﴿…رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا…﴾ (الأعراف: ٢٣)، فألقى باللوم على نفسه. الأول استكبر فطُرد، والثاني اعترف فتاب الله عليه.

 

الخاتمة
إن قصة إبليس لم تُذكر في القرآن لمجرد رواية ماضٍ بعيد، بل لتكون مرآة يراها كل إنسان في نفسه. فالشيطان لا يملك سلطاناً على أحد، وإنما يوسوس ويزيّن، أما القرار فهو للنفس الإنسانية التي تختار، وهي المسؤولة عن طريقها. ومن الفارق العظيم بين إبليس وآدم يتضح الدرس كله: إبليس نسب الغواية إلى ربه فاستكبر وطُرد، وآدم نسب الذنب إلى نفسه فاعترف وتاب الله عليه. ومن أول لحظة في القصة نرى أن المعركة الحقيقية ليست مع الشيطان في الخارج، بل مع النفس في الداخل؛ فإذا زكّاها صاحبها كانت سبب نجاته، وإذا دسّاها كانت طريق هلاكه.
وقد اعتاد الناس أن يجعلوا إبليس شماعة يعلّقون عليها تقصيرهم، كما قال فتى موسى: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، لكن الله يعلّمنا أن نقطع هذه الحجة الواهية، فالشيطان نفسه سيقول يوم القيامة: فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. وهكذا تتعرّى الذرائع، ويقف كل إنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته.
وهنا نفهم أن الفوز لا يكون بادعاء الإخلاص، بل بصدق العمل حتى يتقبله الله، فيرفع صاحبه إلى مقام المخلَصين الذين لا سلطان لإبليس عليهم. فالمخلِص – بكسر اللام – هو من اجتهد في الإخلاص، والمخلَص – بفتحها – هو من قبِل الله إخلاصه وأعانه. وهكذا تلتقي حرية الاختيار برحمة الله، فيسلك المؤمنون سبيل الرشد، ويفوزون برضا الله