غزة: لحظات من المعاناة | محمود حسونة

غزة: لحظات من المعاناة | محمود حسونة

غزة، قطاع المآسي وأرض الآلام، من مأساة إلى أخرى ومن مشهد موجع إلى آخر أشدّ وجعاً، تاريخه المعاصر وحاضره يشكلان مسلسلاً فاضحاً لعجز العالم أمام القرار الإسرائيلي غير القابل للإسقاط ولا للتغيير، إرادة نتنياهو ليست فوقها إرادة، العالم بقواه العظمى ودوله المختلفة ومنظماته الأممية والحقوقية والإنسانية لا بد أن يرضخ لمشيئته، ولو اعترض وندد أحدهم فهو مجرد كلام، لا يغير ولا يساوي شيئاً وإنما مسكِّنات تَحقن بها الحكومات شعوبها لتخفيف حدة غضبها من حقائق تحدث يومياً في القطاع المنكوب.
حلقات هذا المسلسل المأساوي بدأت منذ عام 1967 باحتلال إسرائيل له في حرب الخامس من يونيو/ حزيران وهو الاحتلال الذي أنهته بقرار منفرد منها بالانسحاب في 2005، انسحاب من الأرض مع الاحتفاظ بالسيطرة ليس على البر والبحر والمنافذ والمعابر فقط ولكن أيضاً بالسيطرة على الهواء الذي يتنفسه الناس والغذاء الذي يأكلونه والماء الذي يشربونه والدواء الذي به يتداوون والوقود الذي به يسيِّرون حياتهم والمال الذي ينفقونه؛ وقتما تريد تفتح بعض الأبواب ووقتما تريد تغلق كل الأبواب، ليعيش القطاع منذ الانسحاب داخل سجن مفتوح تحمل مفاتيحه إسرائيل.
في ظل هذه الأوضاع بدا انسحاب 2005 وكأنه انسحاب تكتيكي لإعادة التموضع وتغيير النهج وكأن إسرائيل قد ضاقت ذرعاً بكونها قوة احتلال عليها واجبات تجاه من تحتلهم وهي لا تريد ذلك بل تريد احتلال أرض خالية أو على الأقل محدودة الكثافة السكانية ووجدت أن هذا القطاع من أكثر المناطق على الكوكب ارتفاعاً في الكثافة السكانية، حتى ارتكبت حماس حماقتها في السابع من أكتوبر واهمة السذَّج من مؤيديها بأنها ستحرر فلسطين أرضاً وبحراً وجواً وتحطم القيود والأغلال المفروضة على القطاع والضفة وكأنها لم تدرك أن إسرائيل كانت في حالة انتظار لهذا الفعل حتى تنفذ باقي سيناريو مسلسل تهجير البشر وإخلاء الأرض والسطو عليها والذي بدأت مشاهده بالقصف والقتل العشوائي لكل من تستطيع الآلة العسكرية الباطشة اصطياده، قتلت البشر وخربت البناء وجرفت الأراضي، ثم كان الغزو ومطاردة الناس من مخيم إلى مخيم ومن منطقة لأخرى ومن الشمال إلى الجنوب وهو الغزو المصحوب بحصار خانق لا يسمح بدخول المساعدات.
الحصار أفرز جوعاً والهدف الرئيس هو الإذلال والتعذيب بعد تجريد اليونيسيف والهيئات الأممية والإنسانية من مهامها والتي كانت تقوم بتوزيع ما يتم السماح به من مساعدات بشكل يحفظ للجوعى آدميتهم وتم اختلاق أداة جديدة للإذلال وهي ما أسموها «مؤسسة غزة الإنسانية» وبدلاً من أن تساعد في توصيل الغذاء للجوعى تلعب دوراً معادياً للإنسانية وتكون بذاتها مصيدة يتم اصطياد الناس بها بعد تجميعهم في مناطق محددة بهدف قصفهم وحصد أرواح الممكن منهم وترهيب الناجين من القتل وبث الرعب في أوصالهم حتى يدركوا أن الوسيلة الوحيدة للنجاة من الموت هي الهروب والهجرة من أرض حولتها إسرائيل إلى جحيم يحترق فيه كل من يتمسك بحقوقه وأرض أجداده.
مشاهد الأطفال والنساء والكبار وهم يحملون أوعيتهم متزاحمين للحصول على قليل من الطعام في حد ذاتها تدمي قلوب مشاهديها مهما تباعدت المسافات بينهم وبين غزة، أما مشاهد قصف هؤلاء بالطائرات والمسيرات فلن تسقط من ذاكرة الإنسانية وستظل عاراً على كل من كان بإمكانه وقف هذه الحرب الظالمة ولم يفعل.
يصل الإذلال منتهاه في مشاهد الجوعى الذين تحولوا إلى هياكل عظمية تصارع من أجل البقاء في هذه الدنيا، ولكن صاحب القرار يصر على موتهم جوعاً والمشاهد الأكثر إذلالاً ومهانة هي تلك التي تتناقلها الشاشات يومياً للأطفال وهم يموتون أمام أعين العالم جوعاً ولا أحد يستطيع إنقاذهم!.
الفارق كبير بين القتل قصفاً والقتل تجويعاً، فمن تستهدفه الآلة العسكرية وتقتله وهو شبعان يتألم بعض الوقت، أما من يموت تجويعاً فإنه يتعرض لأبشع أشكال التعذيب والإذلال قبل أن تصعد روحه إلى السماء، لا يموت مرة واحدة بل يموت تقسيطاً وكلما تألم جوعاً تمنى الموت، يعيش في انتظاره بشكل يفوق في رعبه من أصابه مرض عضال وأبلغه الأطباء بانتظار موت يأتي بطيئاً.
الغريب أن مجاعة غزة أقرَّتها الأمم المتحدة وندد بها أمينها العام ووصفها بأنها كارثة من صنع الإنسان وفشل للبشرية وندَّدت بها حكومات الدول التي لا زالت تحتفظ ببعض إنسانيتها ودفعت وزراء ومسؤولين في بعض الدول للاستقالة احتجاجاً على عجزهم وعجز الإنسانية عن إيقاف هذه المجاعة ورغم ذلك تصرُّ إسرائيل وأصدقاؤها على نفيها، مصرِّين على استعماء العالم وخداع البشرية وتزييف الحقيقة، إسرائيل لم تكتفِ، واحتلال غزة بعد تهجير أهلها هو الهدف الذي يصرُّ عليه نتنياهو حتى لو تحفظ عليه جيشه، سعياً وراء وهم «إسرائيل الكبرى» وطالما أنه يتلقى سلاحاً ودعماً من أمريكا فالحرب مستمرة حتى تتحقق إما الإبادة أو التهجير.
مهما كانت مشاهد القتل والهدم والتخريب والتدمير التي شاهدناها على مدار ما يقرب من عامين صعبةً، فإنها اليوم تتوارى خجلاً خلف مشاهد الإذلال والتعذيب والقتل تجويعاً وبدورها ستتوارى مشاهد التجويع خلال المرحلة المقبلة أمام مشاهد ما سيحدث في غزة لإجبار الناس على الهجرة ولننتظر مشاهد جديدة من الإذلال للبشر ما زالت تخفيها إسرائيل ومن المؤكد أنها ستكشف عنها في اللاحق من الأيام طالما ارتضى العالم الصمت.

[email protected]