سكان الوطن أعرف بتفاصيله | حسن مدن

وعدتُ الأسبوع الماضي باستكمال الحديث عن «الحامض الحلو»، لأن هناك تفاصيل لم تتسع مساحة المقال لذكرها، وكنتُ سأفعل لولا أن عدداً كبيراً من الرسائل والشروحات حول الموضوع وصلني من الأصدقاء العراقيين خاصة، نساءً ورجالاً. لقد «وفّوا وكفّوا»، بجميل الشرح، وبعد هذا الكرم العراقي لم يعد هناك ما أضيفه، ولو حاولت سينطبق عليّ القول: «تتبغدد علينا واحنا من بغداد» الوارد في أغنية لكاظم الساهر. وأنا أقول هذا تذكرت مقالاً لي نُشر في هذه الزاوية قبل نحو خمسة عشر عاماً، أتيت فيه على معنى مفردة «التبغدد»، التي وردت في أحد أبيات قصيدة محمد مهدي الجواهري: «يا دجلة الخير»، التي كتبها في ستينات القرن العشرين من منفاه في مدينة براغ، والقائل: «يا أم بغداد من ظُرفٍ ومن غنجٍ/ مشى التبغدد حتى في الدهاقين».
اعتنى ناشرو ديوان الجواهري بشرح المقصود بالتبغدد، فقالوا إنه «تكلّف عادات أهل بغداد وأخلاقهم، طراز معيشتهم وطرق الحياة والتعامل والتخاطب. وانتشر التبغدد في معظم أرجاء العالم إبان العصور العباسية الأولى، وفي أيام رفعة العالم الإسلامي وعظمته وامتداد نفوذه وسلطانه أخذاً بالظُرف واللطف البغداديين، يوم كانت بغداد عاصمة الدنيا آنذاك، وتعاطياً لأساليبها وأزيائها وتأنقها. أما الدهاقون فهي جمع دِهقان: رؤساء القرى والمدن المتنفذون، وهي فارسية معرّبة».
هذا الشرح لمفردة «التبغدد» أشعرني أن القول لن ينطبق على حالي، لو وفيتُ بوعدي وواصلت الحديث عن «الحامض الحلو» بعد ما أفادني به العراقيون من شروحات، ورأيتُ الأصحّ والأنسب في هذه الحال أن أقول «أهل العراق أدرى بشعابه»، تنويعاً على القول الشهير «أهل مكّة أدرى بشعابها»، والمقصود بالشعاب الطرق، حيث عُرفت مكّة بكثرة الشعاب فيها، كونها منطقة جبلية، و«وادياً غير ذي زرع»، ما يجعل من الصعب على زائرها معرفة تلك الشعاب. وحدهم أهل مكّة من يعرفها، و«صاحب البيت أدرى بالذي فيه» كما ينقل لنا د. معتز الخطيب عن نور الدين اليوسي.
لم تعد مقولة «أهل مكّة أدرى بشعابها» تخصّ أهل مكّة والجزيرة العربية وحدهم. المقولات – الحِكم التي تُلخص خبرة البشر تهاجر كما يهاجرون، فغدت تقال في سائر بلاد العرب، حين يراد الإفادة بأن أهل البلد المعني أدرى بما في زواياه من خبايا لا يمكن للغريب أن يدركها، حتى لو طال به المقام فيه.
ليس أهل الديار وحدهم أدرى بشعابها. أهل الكار (أو الصنعة) أيضاً أدرى بشعاب كارهم. يقول المثل الخليجي: «أعطِ الخباز خبزه»، والمعنى أن الخباز المحترف وحده من يتقن التحضير الجيد للخبز. ما أحوجنا لتذكر ذلك ونحن نرى ما نراه من كثرة أدعياء المعرفة بكل شيء، فيما ليس لهم منها ما يعتدّ به.
[email protected]