تصريح حول السلم العالمي | عبد الإله بلقزيز

تصريح حول السلم العالمي | عبد الإله بلقزيز

نظير ما يحوم من شكوكٍ حول صدقيّة قيام الاجتماع السّياسيّ الحديث على مبدأ السّلم الاجتماعيّة، تُثار الشّكوك حول الفرضيّة الرّائجة في ميدان دراسات السّياسات والعلاقات الدّوليّة: القائلة إنّ النّظام الدّوليّ، في صيغته المؤسّسيّة الحديثة (منظومة الأمم المتّحدة)، ومبْنيّ على مبدأ تحتيّ لا قيامَ للنّظام إلا به، ولا استقامةَ لعلاقات الدّول في ما بينها إلا به، هو مبدأ السِّلم العالميّة. لا يختلف الدّارسون لهذا النّظام الدّوليّ، من منظور الإيجاب، في شأن مركزيّة السّلام في بنيانه ووظيفته، ولا في مخاطر التّصدّع أو الانفجار التي قد تدهم ذلك النّظام إنْ وَقَع نيْلٌ من مبدأ السّلم ومن حالتها في العلاقات الدّوليّة، لكنّ بعض أولئك الدّارسين لا يجادل في أنّ النّظام الدّوليّ ما قام، من حيث الأساسُ، إلا من أجل حماية الأمن والسّلم: الهدفان عيناهُما اللّذان اعتقد فلاسفة العقد الاجتماعيّ، في القرنين 17 و18، أنّ الدّولة قامت من أجل تحقيقها. ولعلّ إحالة القول، في هذا الخطاب، إلى ما يُسْنِده من الواقعات أمرٌ مشروعٌ لتسويغه. هكذا فعل القائلون به حين برّروه بالفظاعات المَهُولة التي حصلت خلال الحربين الكبيرتين بين عام 1914 وعام 1945، وبنشوء الحاجة إلى حماية الوجود الإنسانيّ منها في المستقبل من طريق استيلاد نظامٍ عالميّ جامع يحفظ السّلم ويردع انتهاكها.
لهذه الرّواية عن السّلم العالميّة واتّصالِ النّظام الدّوليّ، قياماً واشتغالاً، بها مصداقٌ سياسيّ معلوم هو «ميثاق» الأمم المتّحدة ومقتضياتُ أحكام القانون الدّوليّ. تُصرِّح موادّ الميثاق بمركزيّة تلك السّلم في عمل الأمم المتّحدة ووظائف منظّماتها ووكالاتها، وبتنزُّل ذلك منزلةَ سببِ النّشأة ومبرِّر القيام. وإذِ انصرفت موادّ عديدة لإحاطة الأمن والسّلام الدّوليّين بالضّمانات القانونيّة، ذهبَ فصلٌ من الميثاق، هو الفصل السّابع، إلى تجويز استخدامِ النّظام الدّوليّ للقوّة العسكريّة من أجل ردع الانتهاك الصّارخ للسّلم العالميّة. ومع أنّه ما نجح ذلك كلُّه في أن يُنهيَ الحروب في العالم، إلا أنّه نجح، في الحدّ الأدنى، في محاصرة رقعتها ومنعها من التّمدّد والاتّساع بحيث تصير حروباً إقليميّة أو دوليّة. وحتّى حينما انقسم العالم إلى معسكرين متواجهين، واندلعت حربٌ باردة بينهما: في أوروبا ثمّ في العالم، حوفِظ على الحدّ الأدنى الضّروريّ من عمل مؤسّسات النّظام الدّوليّ وانتظامِه، ومن التّوافق على أمّهات المسائل الكبرى التي تتعلّق بالأمن والسّلم الدّوليّين حفاظاً عليهما، فما عتِم أنِ استفاد نظامُ العلاقات الدّوليّة، في تلك الحقبة المديدة من الحرب الباردة، من سياسة التّعايش بين العظميَيْن لينعم بقدرٍ معقول من الاستقرار ومن الانتظام في أداء الدّور السّياسيّ المصروف إلى حفظ السِّلم الدّوليّة.
على أنّ كلّ الذي بُذِل من جَهْدٍ لرعاية حالة السِّلم في العالم، منذ قيام النّظام الدّوليّ عقب نهاية الحرب الثّانيّة، ما استطاع أن يغيّر من واقع التّجافي المتزايد بين خطاب السّلم وواقعها الموضوعيّ، بين السِّلم المعروضةِ صورتُها في المواثيق والاتّفاقات والقوانين والكلام السّياسيّ…، والسِّلم في خضمّ تناقض المصالح والإرادات واسْتعار الحروب واضطرام نيرانها والعجز المتمادي عن صوْنها وحمايتها من عداء الحرب عليها. باتت هذه المفارقة ماسكةً بخناق السّياسة الدّوليّة منذ وضَع المنتصرون في الحرب قانون العالم وحكموهُ به، فسكتوا عمّا عَنَّ لهم أن يسكتوا عنه، لمصلحةٍ لديهم تقضي بذلك، وأسرفوا في تظهير ما عُدّ تظهيرُهُ إعلاناً عن قواعد النّظام غير القابلة للمجادلة عندهم. كانوا، في الحاليْن، يتأوّلون ما دبّجوه من قوانينَ وأنظمة وتشريعات لإدارة شؤون العالم فيفرضون تأويلهم، بالقوّة لا بالحجّة، مستفيدين من رأسمال الانتصار وما يدرُّه على صاحبه من جزيل الأرباح، إذِ المنتصرُ، كما يقول لسان الخبرة، مَن يَفرض روايتَه وتأويلَه.
لا نتزيّد في القول حين نذهب إلى القطع بأنّ العلاقات الدّوليّة قائمةٌ على قواعدَ مغشوشةٍ لا يجد فيها العالمُ كلُّه مصلحتَه… إذا كان بعضٌ قليلٌ من دُوله يجدها فيها. يُقال هذا، مصدوقاً، على عموم المسائل، مثلما يُقال على مطلب السِّلم العالميّة على وجهٍ خاصّ. لقد خضعت هذه لقسمةٍ ضيزى وزّعتِ العالمَ إلى فُسطاطين: قسمٌ من العالم ينعَم بالسّلم ويرفُل فيها ويُحْرَص عليه من أن يفقدها أو يعاني مخافةً مّا عليها ويُحاط بضماناتها الأمنيّة والقانونيّة، وقسمٌ ثانٍ يفتقر إليها الفقْرَ كلَّه وتجري عليه الحروب وتُهْتَضَم حقوقُه وتُصادَر من غير رحمة، ومن دون أن تشمله ضماناتُ السِّلم وأحكامُها، بل إنّ السّلم الوحيدة التي تُعرَض عليه هي الاستسلام!
لن يتغيّر شيء في أزعومة السّلم، ستستمرّ أسطوانتُها في دورانٍ رتيبٍ لا ينتهي في الوقت عينِه الذي تشُبُّ فيه حرائقُ الحروب، ويُباد فيه النّاس في أتونها، وتُنْتَزَع فيه الحقوق على غير وجهِ حقٍّ مشروع. ستستمرّ أسطوانتُها فيما الحروبُ تتناسل من بعضها، ذلك أنّ الحربَ تجارةٌ نافقةٌ ومجزيةٌ في عالم اليوم، وبالتّالي فالمصالح أقوى اليوم من المبادئ.

[email protected]