“هواتف الحراس” تكشف عيباً خطيراً.. كيف قامت إسرائيل بتنفيذ ضربة غير عادية في عمق الأمن الإيراني؟

في 16 يونيو 2024، وبينما تستعر المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل، شهدت العاصمة الإيرانية طهران واحدًا من أجرأ العمليات الأمنية الإسرائيلية، التي كشفت هشاشة غير متوقعة في أمن كبار المسؤولين الإيرانيين. فقد نفذت إسرائيل ضربة جوية دقيقة على اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي انعقد سريًا في مخبأ عميق تحت سفح جبل، مستغلة ثغرة أمنية غير تقليدية تمثلت في استخدام هواتف الحراس الشخصيين.تكشف هذه العملية – التي كشفت تفاصيلها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية – عن مدى تعقيد حرب الظل بين إسرائيل وإيران، التي تعتمد على تجسس تقني وجاسوسي مستمر، وعلى استغلال نقاط ضعف إنسانية وتقنية من أجل ضرب الأهداف الاستراتيجية الحيوية في كلا البلدين.
اجتماع سري في عمق المخبأ: إجراءات أمنية قصوى وسط قصف متواصل
تزامن تنفيذ الضربة مع اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، عقده كبار المسؤولين في مكان محصن على عمق 100 قدم تحت سطح الأرض، في منطقة جبلية في غرب طهران. حضر الاجتماع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ورؤساء السلطة القضائية والاستخبارات، وقادة عسكريون كبار، من بينهم الجنرال محمد باقر قاليباف، في محاولة لتنسيق الردود على القصف الإسرائيلي الذي استهدف منشآت نووية وعسكرية وحكومية.اتخذ المشاركون كل الاحتياطات الممكنة: وصلوا في سيارات منفصلة، وحرموا من حمل الهواتف المحمولة خشية التعقب، واستُخدم المخبأ المجهز لحمايتهم من أي ضربة جوية. إلا أن هذه الاحتياطات لم تكن كافية، إذ استهدفت طائرات إسرائيلية بابي الدخول والخروج بقنابل دقيقة، أسفرت عن مقتل عدد من الحراس الذين كانوا ينتظرون خارج المخبأ.
كشف الثغرة الأمنية: هواتف الحراس تفضح تحركات القادة
رغم منع كبار القادة من حمل الهواتف، اكتشفت الاستخبارات الإسرائيلية ثغرة أمنية غير متوقعة تمثلت في الحراس الشخصيين الذين كانوا يحملون هواتف محمولة، ويستخدمونها بنشاط على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه العادة البسيطة، لكنها خطيرة، مكنت إسرائيل من تعقب تحركات الحراس، وبالتالي رصد مكان الاجتماع بدقة شديدة.أشار تقرير “نيويورك تايمز” إلى أن الحراس لم يُطلب منهم في البداية حظر الهواتف المحمولة، مما سمح لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي (أمان) بالتسلل عبر هذه القناة. كما أن النشر المتكرر على الإنترنت من قبل الحراس ساعد في تحديد الموقع الجغرافي للاجتماع السري.أكد مسؤول إسرائيلي أن “استخدام عدد كبير من الحراس الشخصيين يحملون هواتف محمولة كان نقطة ضعف كبيرة استغليناها”.
تاريخ من العمليات الدقيقة: استهداف العلماء والقادة
لم تكن هذه الضربة الأولى التي تنفذها إسرائيل ضد إيران في هذا السياق، بل جاءت في إطار حملة استخباراتية طويلة الأمد استهدفت العلماء النوويين والمسؤولين العسكريين. وفقًا للمصادر الإسرائيلية، بدأت تل أبيب تعقب علماء المشروع النووي الإيراني منذ نهاية 2022، وقامت بتصفية 13 عالمًا بارزًا في هذا المجال حتى يونيو 2024.كما أطلقت إسرائيل برنامجًا عسكريًا سريًا باسم “عملية الزفاف الأحمر” لاستهداف كبار قادة الحرس الثوري، وعلى رأسهم العميد أمير علي حاجي زادة قائد القوة الجوفضائية، الذي كان هدفًا رئيسيًا في الضربات.تم إعداد قائمة تضم ما بين 20 إلى 25 هدفًا بشريًا، كانت إسرائيل تسعى لضربهم جميعًا في الضربة الأولى لشل القدرات العسكرية والعلمية الإيرانية قبل أن يتمكنوا من التراجع أو زيادة إجراءات الحماية.
حرب الظل المستمرة: التجسس والتقنية بين إيران وإسرائيل
تمثل حرب الظل بين إيران وإسرائيل صراعًا طويل الأمد يشمل التجسس المتقدم والتسلل الإلكتروني، فضلاً عن العمليات الميدانية والاغتيالات. اعتمدت إسرائيل على عملائها المنتشرين داخل إيران، ومن ضمنهم جواسيس وعملاء سريين، إلى جانب أدوات تقنية معقدة، لاختراق شبكات الحرس الثوري والأجهزة الأمنية.سرقت المخابرات الإسرائيلية في 2018 أرشيفًا نوويًا إيرانيًا هامًا، كان المصدر الرئيسي للمعلومات في تصفية العلماء النوويين، مما أعطى تل أبيب ميزة نوعية في التخطيط لهذه العمليات.أما الجانب الإيراني، فحاول منع استخدام الهواتف المحمولة وتطبيقات المراسلة بين كبار المسؤولين، وأصدر المرشد الأعلى علي خامنئي أوامر مشددة، لكن التنفيذ الفعلي لهذا الحظر كان متأخرًا وغير كامل، خاصة بين الحراس.
الحذر الإيراني المتأخر: تعزيز الحماية بعد موجة الاغتيالات
مع تصاعد موجة الاغتيالات، عين الحرس الثوري لواء “أنصار المهدي” كقوة نخبة لحماية كبار المسؤولين، بقيادة الجنرال محمد جواد أسدي، الذي دعا إلى تشديد الإجراءات الأمنية، وأمر بحظر الهواتف المحمولة على الحراس بعد موجة اغتيالات.مع ذلك، لم تكن جميع الفرق ملتزمة بالقواعد الجديدة، مما مهد الطريق أمام إسرائيل لتنفيذ ضربتها الناجحة في اجتماع المجلس الأعلى، بعد أن حمل أحد الحراس هاتفه المحمول إلى الاجتماع، رغم الحظر الصارم.الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان
قصة النجاة: فتحة ضيقة بين الأنقاض ورعب داخل المخبأ
بعد قصف المخبأ، انهارت الغرفة، وامتلأت بالدخان والغبار، وانقطع التيار الكهربائي. لكن الرئيس بزشكيان والقادة نجحوا في النجاة بطريقة بطولية، حين حفرت أيديهم حفرة ضيقة بين الأنقاض، مما سمح لهم بالزحف خارج المخبأ واحدًا تلو الآخر.على الرغم من عدم مقتل أي من القادة في الهجوم، إلا أن فقدان عدد من الحراس والضرر النفسي والتقني كان كبيرًا، ما دفع إيران لإعادة تقييم كامل منظومة حمايتهم الأمنية.
تبعات الضربة: تعميق الصراع وإعادة صياغة قواعد الاشتباك
تُظهر هذه الضربة أن إسرائيل لا تزال متقدمة في استخدام التكنولوجيا والتجسس، وتملك القدرة على ضرب أهداف حساسة بدقة عالية. وتعكس العملية أيضًا هشاشة منظومة الحماية الإيرانية، التي تعتمد على عناصر بشرية معرضة للأخطاء والاختراق.العملية عززت من مخاوف إيران من وجود جواسيس داخل صفوفها، وأجبرت المسؤولين على تشديد الحراسة وإعادة هيكلة منظومات الاتصالات والاتصال الأمني. لكنها في الوقت نفسه أظهرت ضعف التنسيق والتطبيق الفعلي للإجراءات الأمنية، خاصة على مستوى الحراس.استغلال التكنولوجيا: دروس في الأمن السيبراني والاستخباراتيتشكل قضية استخدام الحراس لهواتفهم المحمولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي درسًا مهمًا في أهمية الأمن السيبراني على مستوى الحماية الشخصية. ففي زمن تُصبح فيه البيانات والمعلومات الرقمية أدوات حربية، قد تُفضي خروقات بسيطة إلى خسائر استراتيجية كبرى.الجانب الإسرائيلي استغل هذه النقطة بإتقان، ليرسم نموذجًا جديدًا لكيفية تنفيذ ضربات نوعية في بيئات معقدة، تعتمد على معلومات استخباراتية متكاملة من مصادر متعددة، منها التقنية، والإنسانية، والإلكترونية.
حرب الظل مستمرة والتهديد يتطور
الحادثة التي كشف عنها هذا التقرير ليست إلا فصلًا من فصول الصراع الطويل والمستمر بين إسرائيل وإيران، حيث تتصارع الدولتان في كواليس التجسس والمخابرات، بعيدًا عن أعين الإعلام، في حرب توازنات غير تقليدية، تستخدم فيها التكنولوجيا وأدوات المخابرات لا مجرد القوة العسكرية.في هذه الحرب، قد تكون “هواتف الحراس” صغيرة لكنها قد تحمل مفتاحًا لنصر أو كارثة، وأي إهمال في التفاصيل يمكن أن يكلف الدماء والنفوذ السياسي.يبقى السؤال الأكبر: كيف سترد إيران على هذه الضربة الأمنية؟ وهل ستتمكن من سد هذه الثغرات، أو أن هذه الحرب الرقمية والاستخباراتية ستأخذها إلى مستويات أكثر تعقيدًا وخطورة في المستقبل القريب؟