أمي، لقد شاهدت شيكابالا!

أمي، لقد شاهدت شيكابالا!

«يا أمي، يا أمي.. هل تعلمين لماذا يرتجف قلبي؟ لقد رأيت مارادونا، رأيته كما لو كان ملاكًا من أقدام الجنوب الطيبة، جاء من بعيد ليكسر أسوار الشمال المتخم بالمال. لم يكن مارادونا لاعبًا فقط، بل كان رايةً رفعها الفقراء في وجه التهميش، وصوتًا صاخبًا أعلن أن نابولي ليست مدينة منسية على هامش إيطاليا، بل قلبها الذي ينبض بعنادٍ وفخر.
اتخذوه قديسًا، بارقة أملٍ في أزقةٍ ضيقة تتنفس كرة القدم وتحيا على حلم الانتصار. بقدميه أعاد نابولي إلى الخريطة، وبوفائه صار أيقونةً لا تُنسى، وأصبح اسمه نشيدًا يتردد في أزقة مدينة الجنوب وعلى ألسنة أبنائها، فإذا سُئلت عن المعجزة، قل رأيت مارادونا، ثم أشر بإصبعك لأي حائط في المدينة لتجد صورة مارادونا عليه.
ولكن هل شيكابالا مثل مارادونا؟ الإجابة قطعًا لا، فالأرجنتيني موهبة فذة إلى حدٍّ يقارب الكمال، قلما جاد الزمان علينا بمثلها، ولكن شيكابالا الذي جاء من جنوب مصر إلى شمالها، من قلب النوبة التي ما دام اشتكى أبناؤها من التهميش والظُلم، ودُفنت أحلامهم تحت أقدام المركزية التي أجبرت كثيرًا من أبناء الصعيد والأقاليم على هجر بلادهم وأهلهم خلف أحلامهم، ومن بينهم كاتب تلك السطور نفسه، هو بالتأكيد موهبة استثنائية.
منذ ساعات قليلة علّق محمود عبدالرازق شيكابالا، قائد الزمالك وأحد لاعبيه التاريخيين، حذاءه، معلنًا نهاية مسيرة قاربت الـ25 عامًا داعب خلالها ساحرة الملايين وأحيا آمال النجاح في قلوب أبناء بلاده وغيرهم ممن ظنوا أن الحُلم حكرٌ على العاصميين فقط.

«ماكنتش مصدق إني ممكن أبقى موهوب لحد ما نجحت في اختبارات مدرسة الموهوبين، كنت بحس إن الناس في القاهرة سابقانا أوي، لأن في أسوان ماحدش بيجيلك وماعندنا الواحد طالع من أسوان وشايف إنه ممكن يبقى لاعيب كويس، أسوان فيها قد شيكابالا مية مرة بس ماحدش بيبص عليهم». هكذا كان يرى شيكابالا الحُلم محرمًا عليه، وأنه ليس من أبناء الموهبة.

قصة محمود عبدالرازق شيكابالا في بدايتها شبيهة لأحلامنا جميعًا.. طفل صغير نشأ فوجد والده معلقًا بناديه المفضل، يغضب ويثور لهزيمته ويتراقص كطفل صغير وقت انتصاره، فتعلق قلب “محمود” بالقميص الأبيض ذي الخطين الحمر، وحلم بالانضمام لصفوفه.

يحكي شيكابالا بنفسه عن مصاعب اللعب للزمالك: «كنت أسافر بالقطار القشاش من أسوان للقاهرة منذ كنت في التاسعة من عمري، ولمن لا يعرف، فالقطار القشاش كأتوبيس نقل عام يقف متى أشار له أحد، حتى وإن كان خارج محطته». فظل “شيكا” الطفل النوبي الذي ارتاد «القشاش» من هوامش الأحلام إلى درجات المجد، ليصبح أسطورةً في قلوب أبناء ميت عقبة.

شارك شيكابالا في اختبارات ناشئي الزمالك واجتازها من المرة الأولى، جاذبًا أنظار كل مدربي القطاع، وعلى رأسهم علي شرف الذي كان قد شاهده من قبل في مباراة أُذيعت تليفزيونيًا في حضور محافظ أسوان، لتبدأ من هنا رحلة شيكا مع الأبيض ذي الخطين الحُمر، خلف مدرج حلمي زامورا، في تلك الغرفة التي خُصصت له للسكن مع والدته التي لم تكن قادرة على توفير تكلفة المعيشة في القاهرة.
توالت الأيام على “شيكا” في قطاع ناشئي الأبيض، وفي سن الخامسة عشرة خاض أولى مبارياته بقميص الفريق الأول، وهز الشباك لأول مرة ضد غزل المحلة في سن السابعة عشرة، وتوالت المشاركات والأهداف حتى احترافه الأول في 2005 الذي لم يستمر طويلًا، فعاد في العام التالي ليحمل على أكتافه أحلام الزملكاوية، ويرسم بسمة الشقاء على وجوههم في سنوات وصفوها بالسوداء، وحمل “الأباتشي” الزمالك على أكتافه، وظل يحارب العشرية السوداء للأبيض، وكانت بصمته واضحة في كل الأيام المضيئة وسط سنوات ظلام ميت عقبة.

ثم جاء مارادونا ليُحيي حلم شيكابالا مجددًا، ولكن هذه المرة في الوصل الإماراتي، بعد أن طلب ضمه لصفوف فريقه.
قال عنه مارادونا: «لديه إمكانيات فنية ومهارية تؤهله للعب في أكبر الأندية الأوروبية، ومهارته الفردية تضعه في مكانة قريبة من اللاعبين البرازيليين والأرجنتينيين». ولكن الالتزام يا صديقي.. الموهبة وحدها لا تكفي إذا لم يصحبها إرادة والتزام من صاحبها، فأضاع شيكابالا فرصًا أوروبية ثمينة مثلما حدث مع باوك أولًا، ثم مع لشبونة. ربما لم يدرك وقتها أن الموهبة معركة واحدة من معارك كثيرة في الاحتراف، أبرزها الالتزام. ربما أخطأ شيكا وربما أيقن الدرس متأخرًا.. لكن إن نظرت في عينيه لن ترى سوى طفل نوبي تعلّق قلبه بفريقه المفضل وبالكرة ككل أقرانه، وذهب خلفها أينما وضعته، ونقش وجهه وشكّل جزءًا مهمًا في ذاكرة جماهير فريقه.

شيكابالا الذي جاء من الجنوب لاهثًا خلف حلمه، لا يدري إن كانت الموهبة تسكنه حقًا، لم يكن يبحث عن شيء سوى أن يجعل والده فخورًا به، فظل يركض خلف الكرة ويقاتل من أجل قميص ناديه المفضل. فكانت علامته المسجلة المراوغة إلى عمق الملعب والتسديد في «السوكة» — كما يعبر جماهير الكرة عن تلك الزاوية الصعبة في المرمى. ترك خلف ظهره كل شيء إلا حبه لفريقه المفضل، حتى في تلك اللحظة التي وقّع فيها لمنافسه التقليدي، عاد مسرعًا إلى ميت عقبة كطفل ركض نحو أمه معتذرًا عن خطأه.
لم يكن شيكابالا ذلك الرجل المثالي الذي يتخذ القرار الصائب دائمًا، لكنه تبع قلبه أينما قاده. ربما أخطأ حين اعتمد على قلبه وحده، وكان عليه أن يزن الأمور بميزان العقل أيضًا، لكن موهبته الفذة كانت كفيلة بأن تُغفر له زلاته. فالجميع يخطئ، و«الأباتشي» لم يكن قديسًا ولا راهبًا، بل رجلٌ ركض خلف حلمه، وسار إلى محبة الجماهير التي كان واحدًا منهم في يوم من الأيام.
المسيرة التي نحتفي اليوم بنهايتها، حملت الكثير من المعاني والأحلام والطموحات التي حقق شيكابالا بعضها ولم يحالفه الحظ في البعض الآخر، لكنه — وبعد أن أصبح أيقونةً لجماهير ميت عقبة — يعلق حذاءه تاركًا إرثًا لن ينكره أحد، حتى منافسيه. فشيكابالا كان بارقة الأمل لكثير من موهوبي الأقاليم: أن الفرصة ما زالت قائمة لمن يريدها حقًا، وأن القطار القشاش بإمكانه أن يبلغ المجد، وأنك ستحكي لأبنائك يومًا أنك قد رأيت شيكابالا.