البيان” تكشف الأسرار: “فاكهة مصر تُحصد للفقراء وتُخزن للأثرياء

البيان” تكشف الأسرار: “فاكهة مصر تُحصد للفقراء وتُخزن للأثرياء

ثلاجات الجشع.. حين تُحتكر فاكهة المصريين داخل عنابر مُغلقة

 

تحقيق_ خالد جزر

 

«فواكه تُزرع بأيدي الفقراء.. وتؤكل بأموال الأغنياء»

مع بداية كل صيف، تتحول الحقول والمزارع في مصر إلى جنات خضراء تُنتج أطيب ما جادت به الأرض من فواكه موسمية: مشمش، خوخ، برقوق، تفاح بلدي، وغيرها من الأصناف؛ ينتظرها ملايين المصريين، خصوصًا البسطاء منهم، كفرصة قصيرة لتذوق فاكهة بلدية طازجة، قبل أن تغيب مواسمها.

 

لكن الواقع لا يُمهلهم كثيرا، فخلال أيام قليلة، تختفي الفواكه من الأسواق، أو تتضاعف أسعارها فجأة بشكل مبالغ فيه.. والسبب؟ ليس في المناخ أو الإنتاج أو حتى التصدير، بل في ثلاجات عملاقة، ظاهرها حفظ الخير، وباطنها احتكار الفاكهة وتعطيش السوق.

إنها “ثلاجات الجشع”، التي أصبحت أداة بيد فئة محددة من كبار التجار والمحتكرين، يشترون المحصول مبكرًا من المزارعين بأسعار زهيدة، ثم يخزنونه بعيدًا عن أعين الرقابة، ليخرجوه لاحقًا إلى السوق بأضعاف سعره، بعد أن يكون الموسم قد انتهى والعرض شحّ.

 

الموسم يبدأ.. والتخزين يتحرك: من يشتري فواكه مصر ببخس الثمن؟

داخل قرى ومزارع الشرقية والمنوفية والبحيرة، و الإسكندرية، ومطروح، يبدأ الموسم بحصاد مبكر. المُزارع يعرف أن مشمش أو خوخ هذا الأسبوع، لن يصمد كثيرًا، وأن السوق غير مضمون، لذا يفضل بيعه مباشرة “من على الشجرة”، أو سعر يومي ثابت لمتعهدين كبار.

 

هؤلاء المتعهدون لا يظهرون فجأة؛ بل هم طرف في شبكة منظمة تتبع شركات أو أفراد لديهم ثلاجات وعنابر تبريد ضخمة، يقومون بجمع الفاكهة من عشرات المزارع دفعة واحدة، بسعر موحَّد ومنخفض، وينقلونها فورًا للتخزين.

 

يقول أحد الفلاحين من قرية النجاح بمحافظة البحيرة: “بعنا الخوخ السكري مابين 30 و33 جنيها للكيلو من المزرعة، وبعد أسبوع خرج للأسواق بداية من 80 لـ90 جنيها، والمشمش من 40 جنيها القطيع، وحاليا في الثلاجات 85 جنيه، فرق عشرات الجنيهات ليصبح مكسب الطن الواحد قرابة الـ30 الف جنيه.. هكذا تنتقل الفاكهة من المزارع إلى الثلاجة ثم إلى التاجر الصغير وأخيرًا إلى المواطن، بعد أن يتضاعف ثمنها ثلاث أو أربع مرات.

 

ثلاجات بلا رقابة.. أين تُخزن خيرات المصريين؟

في مصر، تنتشر عشرات الآلاف من ثلاجات حفظ الفاكهة والخضروات، البعض مرخص والبعض الآخر يعمل بعيدًا عن عين الدولة، خصوصًا في المناطق الزراعية وعلى أطراف المحافظات، والطرق الصحراوية..

 

المفارقة أن هذه الثلاجات لا تخضع لرقابة دائمة من وزارة التموين أو الزراعة، ولا توجد قاعدة بيانات دقيقة بعددها وسعتها، ما يجعل مراقبة التخزين شبه مستحيلة.

 

تُستخدم هذه الثلاجات أحيانًا للتصدير، ولأغراض مشروعة، لكنها في مواسم الفاكهة تتحول إلى أداة للاحتكار، يتم تخزين المحصول وإخراجه في أوقات محددة، بعد انتهاء الموسم، بما يضمن قلة المعروض وارتفاع الأسعار.

 

التلاجة VS السوق.. كيف تُدار لعبة التحكم في الأسعار؟

تُشبه العملية ما يحدث في البورصة؛ حين يقل العرض ويزداد الطلب، ترتفع الأسعار، وهذه هي المعادلة التي يتقنها أصحاب عنابر التبريد والتجميد.. النتيجة؟ الفاكهة التي جُنيت للفقراء، تُباع لاحقًا بأسعار لا يقدر عليها إلا الأغنياء.

 

المواطن يدفع الثمن.. لماذا أصبحت فاكهة الصيف حلمًا؟

في أحد الأسواق الشعبية بمدينة الزقازيق، تقف سيدة خمسينية تنظر طويلاً إلى المشمش، وتتمتم:
“اشتريته من ايام بسيطة بـ50جنيه.. دلوقتي بقى بـ120.. اللي باقي من مصروف البيت أجيب به إيه بس؟”

 

ليست وحدها. ملايين من المصريين البسطاء اعتادوا أن موسم الفاكهة هو فترة تعويض، تذوق، وفرحة بسيطة لأطفالهم، لكنهم فوجئوا بأن أسعارها أصبحت خارج قدراتهم.

 

معادلة السوق القاسية حرمتهم حتى من أبسط حقوقهم في خيرات بلادهم. فالفاكهة التي تُنتج في أرض قريبة منهم، تمر عبر عنابر مغلقة تُعيد تسعيرها حسب هوى التجار، لا وفق دخل المواطن.

 

ومع غياب البدائل، تُصبح الفاكهة ترفًا، ويُحرم الأطفال من حبة خوخ أو تفاحة بلدي، كان من المفترض أن تكون في متناول الجميع.

 

ثغرات القانون.. من يحمي المستهلك من جشع المحتكرين؟

المفارقة أن الاحتكار غير مباشر، وبالتالي يصعب إثباته قانونيا، فصاحب الثلاجة لم يمنع البيع، لكنه اختار “التوقيت الأمثل” له لتحقيق الربح الأكبر.. وفي ظل غياب قانون يلزم بضخ كميات من المخزون للسوق بصفة دورية، لا تُعد العملية مخالفة صريحة.

 

ويقول “على جلال” محام متخصص في قضايا التموين: “طالما السلعة ليست مدعومة أو محددة السعر رسميًا، فالدولة لا تستطيع التدخل في توقيت بيعها أو الكمية المعروضة منها، وهذا فراغ تشريعي يجب معالجته”..

 

القانون الحالي لا يصنف تخزين الفاكهة كجريمة احتكار إلا إذا ثبت تعمد منع تداولها لإحداث نقص في السوق، وهو أمر يصعب إثباته دون رقابة شاملة.

 

المسؤول يرد.. هل هناك نية لمواجهة المحتكرين؟

توجهنا بعدة أسئلة إلى مصادر في وزارة التموين ومديرية الزراعة بالشرقية، وكان الرد متكررًا:
“لا توجد مخالفة طالما المنتج غير مدعوم، والتخزين لا يتسبب في فساد أو إهدار”

وعن إمكانية سن قانون لمراقبة كميات الفاكهة المخزنة في مواسم معينة، أكد المصدر أن الأمر يحتاج إلى دراسة شاملة وقرار سياسي أعلى، نظرًا لحساسيته وتأثيره على حركة التجارة والتصدير.

 

ما بين مطرقة الفلاح وسندان التاجر.. من الرابح ومن الخاسر؟

اللافت أن الفلاح نفسه ليس هو المستفيد الأكبر، فغالبًا ما يضطر لبيع محصوله مبكرًا خوفًا من الخسارة، أو لعدم توفر وسائل حفظ خاصة به،
وبينما يجني التجار الكبار أضعاف ما دفعوه، ويُحرم المستهلك من العائد العادل..

 

الخاسر الحقيقي هو المواطن، أما الرابح، فهو “الذي يمتلك الثلاجة الكبيرة وشبكة التوزيع”، والذي يضع يده على السوق دون أن يراه أحد.

 

“آن الأوان لفتح أبواب العنابر المحصنة”

القضية ليست في فاكهة فقط، بل في نموذج كامل من التلاعب بمنظومة الإنتاج والتوزيع في مصر،
في بلد يُنتج ملايين الأطنان من الفاكهة سنويًا، يصبح الحصول على كيلو مشمش أو خوخ حقًا مؤجلاً، ينتظر المواطن فيه انتهاء لعبة التخزين والاحتكار.

 

إن لم تتحرك الأجهزة المعنية لوضع حد لهذا النمط من الاستغلال المنظم، وإن لم توضع آلية رقابية شفافة على ما يُخزن ويُطرح، فسنظل ندور في دائرة عبثية: فواكه تُزرع بأيدي الفقراء.. وتؤكل بأموال الأغنياء.

 

«فواكه تُزرع بأيدي الفقراء.. وتؤكل بأموال الأغنياء»

«فواكه تُزرع بأيدي الفقراء.. وتؤكل بأموال الأغنياء»