جيسيكا… والحوت الذي كشف أسراركم واحداً تلو الآخر

جيسيكا… والحوت الذي كشف أسراركم واحداً تلو الآخر

لم تكن جيسيكا سوى كذبة سخيفة، وحوت الأوركا لم يكن سوى صورة عابرة على الإنترنت، ومع ذلك، نجحت هذه القصة في فضح عورات العقول كما لم تفعل آلاف الحقائق الموثقة!

في لحظة واحدة، تحولت الأكذوبة إلى قديس جديد في معبد القطيع، ومعها اكتشفنا أن ما يُسمى بـ (الرأي العام) ليس إلا مسرحاً من ورق، تحركه أي يد تعرف أين تضع الطُعم.

القصة التي لم تحدث أبداً وجدت مكانها بسهولة في عقول ملايين البشر. لم يسأل أحد: من نشرها أول مرة؟ هل هناك مصدر موثوق؟ أين التغطية الإخبارية؟ لا، لم يسأل أحد، لأن السؤال يحتاج عقلاً، والعقل في زمننا رفاهية نادرة. كل ما كان مطلوباً هو صورة مثيرة، واسم أنثوي يثير التعاطف، وقليل من البهارات الدرامية، ليبدأ القطيع في الركض خلف الحكاية كأنها النذير الأخير.

وهنا مربط الفضيحة: أنتم لا تبحثون عن الحقيقة، أنتم تبحثون عن قصة تلائم مزاجكم، حتى لو كانت مصنوعة في مطبخ الأكاذيب. أنتم لا تريدون أن تفكروا، أنتم تريدون أن تشعروا. أنتم لستم ضحايا تضليل، أنتم شركاء فيه، حراس بواباته، وحملة راياته.

المشكلة أن ما حدث مع جيسيكا كان نسخة تجريبية لكارثة مقبلة. اليوم، أكذوبة عن مدربة حيتان، وغداً إشاعة عن انهيار سوق الأسهم، أو تقرير مزيف عن هجوم إرهابي، أو (تسريب) مفبرك عن مسؤول، وستتعاملون معها بالاندفاع الأعمى نفسه، وستدافعون عنها بالسخافة نفسها، وستسخرون من كل من يشكك فيها.

أنتم لا تدركون أنكم تمثلون الحلم الذهبي لكل من يريد السيطرة على العقول. أنتم الجيل الذي لا يحتاج إلى تكميم الأفواه، لأنكم تضعون الكمامة بأنفسكم. أنتم الجمهور الذي يصفق للكاذب لأنه أمتعكم، ويهاجم الصادق لأنه أزعجكم. أنتم الذين جعلتم من التضليل رياضة يومية، ومن الأكاذيب مادة للتسلية، ومن التحقق من المصادر مهمة مملة لا تستحق دقيقة من وقتكم.

حين انكشفت كذبة جيسيكا، لم نشهد موجة غضب، ولا شعوراً بالخيانة، ولا حتى إحراجاً جماعياً، بل كانت الردود: وماذا في ذلك؟ القصة جميلة…!

نعم، أنتم جيل يرى أن الجمال في القصة أهم من صدقها، وأن الإثارة أهم من الواقع. أنتم جيل يقيس قيمة الخبر بكمية التفاعل، لا بكمية الحقيقة التي يحتويها.

المثير للاشمئزاز أنكم حتى لم تبتلعوا الكذبة كاملة، بل أعدتم طهيها بأنفسكم، أضفتم لها تفاصيل لم يقلها أحد، صوراً لم تلتقط، شهوداً لم يولدوا أصلاً. أصبحتم كتاب سيناريو لحكاية لم تُكتب أصلاً. هذه ليست سذاجة بريئة، هذه شراكة كاملة في صناعة التضليل.

والأكثر سخرية أنكم تتفاخرون أحياناً بأنكم (أذكياء) وتعرفون كيف تميزون بين الصدق والكذب. حقاً؟ إذا كانت جيسيكا قادرة على خداعكم في ثلاثة أسطر وصورة، فماذا سيفعل بكم جهاز مخابرات محترف؟ إذا كان حوت أوركا وهمي قد أربك وعيكم، فكيف ستتعاملون مع حملة تضليل مصممة بدقة لتمرير قرار حرب أو قلب نظام حكم أو تحريك الأسواق؟

أنتم جيل هش، لا لأنكم تجهلون، بل لأنكم تجهلون أنكم تجهلون. أنتم لا تعرفون كيف تبحثون عن المعلومة، ولا تريدون أن تتعلموا. أنتم تبنون قناعاتكم على صور معدلة، وتصريحات مبتورة، وحكايات بلا مصدر. أنتم تصوتون، وتؤيدون، وتعارضون، وتغضبون، وتثورون… بناءً على هواء معطر برائحة الوهم.

جيسيكا لم تفضح ضعف إدراككم للحقيقة فقط، بل كشفت أيضاً عن غياب الحياء الفكري. في الماضي، كان المخدوع يشعر بالعار حين يكتشف أنه انطلت عليه الخدعة، اليوم، المخدوع يدافع عن الخدعة بفخر، وكأنه جزء من عمل فني جماعي. أنتم جيل لا يخجل من خطئه، لأنه لا يرى الخطأ أصلاً.

وهذا ما يجعل الحكاية مرعبة: الخطر لم يعد في من يصنع الأكاذيب، بل في من يحميها من السقوط. أنتم الحاضنة الشعبية للكذب، أنتم الجيش التطوعي للزيف. أنتم من يمنح الأكاذيب عمراً أطول من الحقائق، وقوة انتشار تفوق أي حملة دعائية رسمية.

حين تأتي الأكذوبة الكبرى، لن تكون على شكل قصة لطيفة عن حوت ومدربة، بل ستكون على شكل واقع بديل يفرض عليكم، وستعيشون فيه دون مقاومة، لأنكم ستكونون قد فقدتم بوصلة التمييز نهائياً. وعندها، لن تحتاج القوى التي صنعت الكذبة إلى إقناعكم، بل ستكتفي بمشاهدتكم وأنتم تدافعون عن أوهامها كما دافعتم عن جيسيكا.

في النهاية، الحوت لم يقتل جيسيكا، لأن جيسيكا لم توجد أصلاً، لكن أنتم قتلتم الحقيقة، وألقيتم بجثتها في البحر، وصفقتم وأنتم تشاهدونها تغرق. أنتم فعلتم هذا، لا أحد غيركم.

لم يتم حذف أو تعديل أو اجتزاء أي جزء من النص، وتم تصحيحه لغوياً وإملائياً فقط.