حماس: بين خيال الشهادة وواقع الدمار

في الحقيقة، لا يبدو المشهد في قطاع غزة هذه الأيام كمجرد لحظة عابرة من فصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل هو تحول نوعي، يحمل دلالات استراتيجية وأبعادًا فكرية تنذر بما يمكن تسميته بـنهاية دورة كاملة من السردية الأيديولوجية لحركة حماس الإرهابية. أعتقد، ومن وجهة نظري كمراقب، أن المعركة تجاوزت حدود العمليات العسكرية لتلامس جوهر البنية التنظيمية والعقائدية التي حكمت القطاع لأكثر من 15 عامًا.
بلا شك، دولة إسرائيل لا تلاحق في هذه المرحلة مجرد خلايا أو مخازن أسلحة، بل تسعى إلى تفكيك البيئة الحاضنة الكاملة التي شكّلتها حماس الإرهابية على مدى سنوات، بكل ما تحمله من رمزية مقاومة، وخطاب ديني، وصورة ذهنية شعبية. وقد تأخرت دولة إسرائيل في دخول المناطق الوسطى والجنوبية – مثل دير البلح، خان يونس، والمواصي – لاعتبارات مركبة تتعلق بالكثافة السكانية، ووجود الرهائن، وخطورة الأنفاق، والضغوط الدولية، لكنها اليوم بصدد قلب هذه الصفحة.
الملاحظ أن الجيش الإسرائيلي، في استراتيجيته الحالية، يدمج بين تفريغ سكاني ناعم، وهجمات نارية ذكية، وتمهيد لاجتياحات محدودة تُنفذها وحدات خاصة مدعومة بتفوق جوي، ومع ذلك، تبقى المفارقة الكبرى في سلوك حماس الإرهابية نفسه، إذ لم تظهر الحركة حتى الآن أي مرونة حقيقية تجاه المبادرات الدولية، بل يبدو أنها تتهيأ لنهاية درامية تتماهى فيها الشهادة مع الانهيار.
من وجهة نظري كمراقب، فإن الخطاب العلني لقيادات حماس بات يميل إلى صياغة سردية فدائية نهائية، تضع التنظيم في موقع البطل المقتول لا الطرف السياسي الفاعل، ولعل أقوى ما يعكس هذه الروح هو ما صرّح به خالد مشعل، أحد أبرز وجوه القيادة الخارجية لحماس، حين قال :”العدو لا يفهم إلا لغة الجهاد والاستشهاد”، و “فداء فلسطين لا يُقاس فقط بقوة السلاح بل باستعدادنا للموت”.
بلا شك، يحمل هذا التصريح رؤية متمركزة حول فلسفة الفناء البطولي، حيث يُحوَّل الموت من نتيجة مؤلمة إلى ذروة نضالية، هذا الخطاب لا يخدم فقط تعبئة الأتباع، بل يوجّه الإعلام الموازي – التابع للحركة – إلى إنتاج محتوى مهيّئ نفسيًا لتقبّل سقوط القيادة واختفاء التنظيم بوصفه خاتمة مجيدة.
وتتّسق هذه القراءة مع التصريحات العسكرية التي تبثها كتائب القسام، لا سيما من خلال المتحدث العسكري أبوعبيدة، الذي حذّر قائلا:”إذا استُهدف المدنيون دون تحذير، سننفذ حكم الإعدام بالرهائن” في تصريح لا يمكن قراءته إلا بوصفه تجسيدًا للعقلية التدميرية، التي تجعل من قتل الذات والآخر جزءًا من استراتيجية الممانعة.
يرى المراقبون أن هذا النوع من الخطاب – العنيف، الفدائي، وغير القابل للمراجعة – يعكس فقدان الأمل في النجاة التنظيمية، بل إن بعض المراكز الغربية المعنية برصد السلوك العقائدي للجماعات المسلحة، أشارت إلى أن حماس باتت تدرك أن نهاية القيادة الداخلية قادمة لا محالة، وأن ما تبقى من عناصرها الخارجية قد تواجه، في السنوات القادمة، عمليات اغتيال دقيقة تشبه ما حدث لمن سبقوهم.
ومن وجهة نظري، فإن ملف الرهائن بات مجرد أداة زمنية لتأجيل هذا المصير، وليس نقطة ارتكاز حقيقية في مفاوضات الحل. فبمجرد إنهاء هذا الملف، سيُعاد تعريف الحركة في نظر المجتمع الدولي ليس كطرف تفاوضي، بل كتنظيم مطلوب التصفية، وسيبدأ سيف التتبّع الدولي يطال قياداتها أينما وُجدوا.
بموازاة ذلك، تستعد المنطقة لما يمكن وصفه بأكبر تحدٍ لإعادة إعمار حضاري وإنساني في العصر الحديث، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن كلفة إعادة إعمار غزة قد تتجاوز 50 مليار دولار، مع ترجيحات بارتفاع الرقم بسبب الدمار الواسع، وانعدام شبكات البنية التحتية، والوقت المطلوب الذي قد يمتد لأكثر من ثلاثين سنة.
ومن وجهة نظري كمراقب، فإن هذا المشهد سيفتح شهية العديد من الأطراف الإقليمية والدولية للمشاركة في مشاريع الإعمار، لا لغايات إنسانية بحتة، بل للاستفادة من دورة التدفق المالي، وتعزيز النفوذ السياسي، وفرض الشروط على المستقبل السياسي للقطاع. وسيكون ملف الإعمار بحد ذاته ساحة تنافس أخرى، تحكمها الحسابات الاستراتيجية لا فقط الرغبة في الترميم.
ولذلك وبناء على ماسبق، فإن حماس ليست أمام خيار الصمود، بل أمام حتمية التفكك والموت تحت عنوان ماتسميه الشهادة، فالمعركة لم تعد على الأرض فقط، بل أصبحت معركة على الذاكرة، حيث تسعى حركة حماس الإرهابية إلى أن تُختَم مسيرتها بصورة بطولية تتجاوز الحقيقة السياسية وتُخلَّد في الخيال الشعبي كـنموذج الفداء الكامل.
في الختام، أعتقد أن النهاية الدرامية التي تستعد لها حماس – فكريًا وإعلاميًا – ليست نهاية مجيدة كما يتصوّر مؤيدوها، بل لحظة كاشفة عن عجز البنية العقائدية عن إنتاج بدائل سياسية قابلة للحياة، فهي نهاية سردية أكثر مما هي نهاية صراع، لكنها، في كل الأحوال، تمهّد لمرحلة مختلفة من تاريخ غزة، عنوانها الأبرز، تفكك التنظيم، وانفجار الإعمار، وصياغة مستقبل لا مكان فيه لمن اختار أن يموت ذليلا ومنبوذا دون أن يترك للأخرين بابًا واحدًا للحياة.