الخوف ليس سوى وهم

في الزاوية المظلمة من كل نفس، يقبع كائن خفي لا اسم له، لكنه يُنادى كل ليلة: الخوف. نُقسم أنه حقيقي لأنه يُرعبنا، ونراه رغم أنه لا شكل له، ونرتعد أمامه كأنه وحش من لحم ودم، مع أنه لا يملك سوى ظل… ظل يطارد الظلال.
نولد ونحن نصرخ، لا لأننا نتألم، بل لأننا ندرك – لحظة انقطاع الحبل – أن العالم لا يملك ضوء الرحم، ولا دفء السائل الذي تعوّدناه. منذ تلك اللحظة، يدخل الخوف كأول دخيل، يسكن في زاوية القلب ولا يغادر. لكنه لا يأتي وحيداً، بل يحمل معه ألف قناع: الخوف من الفشل، من الفقد، من الرفض، من الجنون، من التغيير، من المرض، من الناس، من الوحدة، ومن الحياة ذاتها.
لكن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يهمس بها هي أن الخوف لا وجود له خارج عقولنا. لا أحد يملك أن يمسك الخوف بيده. لا أحد وجد له هيكلاً في المختبرات. إنه خيال نُعطيه صلاحية أن يعطل قراراتنا، يُحجم أحلامنا، ويحوّلنا إلى نسخ باهتة ممن كنا يمكن أن نكونهم. عندما تخاف، فأنت لا تواجه خطراً حقيقياً، بل تصوّراً لمستقبل لم يحدث بعد. الخوف مستقبل مؤجل، ومع ذلك نعيشه كما لو أنه ماضٍ نتحمل وزره.
حين نقول إننا خائفون من السقوط، فإننا في الحقيقة لا نسقط… نحن فقط نتصوّر السقوط. الخوف هو الحافة قبل الهاوية، وليس الهاوية نفسها. هو اللحظة التي نرتجف فيها ونحن ننتظر صوت الانفجار… دون أن ينفجر شيء.
هناك من لا يعيش حياته لأنه يخشى أن يفقدها. وهناك من يرفض الجميع لأنه يخشى أن يُخذل. وهناك من يرفض الحلم لأنه لا يريد أن ينهار في لحظة. وهؤلاء لا يدركون أنهم وهماً بالنجاة… يموتون ببطء. لأن الخوف لا يضمن النجاة، بل يضمن غياب المغامرة. وهو لا يمنع السقوط، بل يمنع الطيران.
الخوف يحب أن يتحدث بصوت داخلي مألوف: ماذا لو؟ هذا السؤال وحده كفيل بتحويل عقل أي إنسان إلى متاهة من التشكيك والشلل:
– ماذا لو خذلني؟… فتبقى بلا أصدقاء
– ماذا لو فشلت؟… فتبقى بلا تجربة
– ماذا لو ضحكوا عليّ؟… فتبقى بلا صوت
“ماذا لو؟” هي سكين يغرسها الخوف في خاصرة الاحتمالات.
الغريب أننا نخاف مما لا نراه، ولكن لا نخاف مما نعيشه فعلاً. نحن لا نخاف الوظيفة التي تُهيننا كل يوم، لكننا نخاف من البدء بمشروع جديد. لا نخاف العيش تحت الظلم، لكننا نخاف من المواجهة. إن الخوف يُنبت جذوره في عقل يُجيد التبرير، لا التغيير.
من يحبك يخاف عليك… أما الخوف، فلا يحبك. إنه لا يحميك، بل يحمي نفسه منك. لأنه يعلم أن لحظة شجاعتك… هي نهايته. حين تنظر في عيني الخوف وتقول له: “أنا قادم رغمك”، يبدأ بالتلاشي، لأنه لا يستطيع أن يبقى في غرفة ملأى بالنور. إنه يتغذى على التردد، ويكبر في الظلمة، ويشرب من دم التضحية بالفرص.
الخوف وهم، لكنه وهم متقن. يشبه السراب. من بعيد يبدو كأنه ماء، يلمع في صحراء قراراتك. تركض إليه لتنجو، فترتطم بالفراغ. تتصور أنه ملاذ، فإذا به متاهة. وتظن أنك إن استجبت له… ترتاح، لكنك في الحقيقة تبدأ بالتنازل، شيئاً فشيئاً، حتى تذوب أنت ويظل هو.
في لحظات الحسم، يظهر الخوف بصيغة النُصح. يُقنعك أن التراجع حكمة، وأن التأجيل حذر، وأن الصمت عقل. لكن الخوف ليس حكيماً، بل محتال، لا يريدك أن تُجرّب، ولا أن تتغيّر، ولا أن تُفكّر. الخوف يريدك أن تبقى كما أنت… خائفاً. لأنك حين تكسر قيده، يتعرى.
حتى حين نضع لأنفسنا أهدافاً ونُخطط بعقل، يهمس الخوف في الخلفية: ليس الوقت مناسباً… لا تتهور… ستندم!
وما لا نقوله لأنفسنا هو أن الانتظار لا يُزيل الخوف، بل يجعله أكثر قسوة. وأن اللحظة المثالية التي ننتظرها لن تأتي… لأن الخوف يعيد ضبط الساعة كل مرة نقترب.
أقسى ما في الخوف أنه يُربّي لك قناعاً، يجعلك تبتسم وأنت تتألم، توافق وأنت معترض، تُمثل الأمان وأنت على وشك الانهيار. ولأننا مجبولون على النجاة، نُسايره… حتى ونحن نعلم أنه كاذب.
هناك نوع من الخوف مفيد، ذلك الذي يمنعك من السير فوق النار، أو القفز من جبل. لكنه خوف بيولوجي، رد فعل لحظي، لا يقيم فيك. أما خوفك من الحب، من المجازفة، من التغيير… فهو ليس خوفاً، بل تربية، تمت برمجتك على أن تحذر أكثر مما تحاول، وأن تنتظر الإذن قبل أن تخطو، وأن تسأل عن رأي الآخرين فيك قبل أن تعترف برأيك في نفسك.
الخوف هو السيناريو الذي لم يُكتب بعد، ومع ذلك نكتبه يومياً على هوامش الحياة. نضيف له مشاهد لم تقع، وعبارات لم تُقل، ونبني جدراناً بيننا وبين الحياة. لكن الذي يعيش داخل الجدار… لا يرى الشمس.
حتى في المجتمعات، هناك من يصنع الخوف كي يُسيطر. الخوف من المختلف، من المجهول، من الآخر، من العدو، من الغد. يصنعونه في الإعلام، وفي المدرسة، وفي الدين، وفي الأسرة. لأن الإنسان الخائف… سهل الانقياد.
ومع ذلك، حين ينهار كل شيء، ويقف الإنسان عارياً أمام الحقيقة، يكتشف أن أسوأ مخاوفه… لم تحدث. وأنه لو واجهها منذ البداية، لكان الآن في مكانٍ آخر تماماً. الجروح التي هرب منها، أصابته بالرغم من الهروب. والطرق التي خشي سلوكها… انتهت إلى طرق أسوأ.
عندما نكفّ عن الخوف، لا نصبح أقوياء فوراً، لكننا نبدأ أول خطوة نحو الحقيقة. لأن الحقيقة لا تُقيم في غرف مظلمة. بل في عيون الذين تحدّوا السقوط… وسقطوا، ثم نهضوا.
في النهاية، الخوف مجرد وهم… لكنه وهم يتغذى من إيماننا به. وكلما نظرنا في عينه وسألناه: أين حقيقتك؟ سكت، لأن الوهم لا يملك صوتاً، بل صدىً نحن من يصنعه.