مكافأة للأموات

مكافأة للأموات

في أوطاننا التي تُزهر فيها الكراسي وتذبل فيها العقول، يبدو أن المثقف العربي وُلد في الزمن الخطأ، واللغة الخطأ، والحي الخطأ، وربما حتى في القارة الخطأ. يعيش المثقف حالة تشبه “الكائن الممنوع من الصرف”، لا يقبله الواقع، ولا يعترف به النظام، ولا تستوعبه الحاشية. يُولد ليتعذّب، يُبدع ليتّهم، ويموت ليُكرَّم. تلك هي المعادلة التي يحفظها التاريخ العربي عن ظهر خذلان.

فبينما يتم تتويج الجهل وتوزيع الأوسمة على صُنّاع الفراغ، يُعامَل المثقف كفيروسٍ خطير يجب احتواؤه، أو كـ “فكرة مزعجة” يجب إسكاتها. السلطة لا تحبّ من يكتب، وتخشى من يقرأ، وتلاحق من يفكر. لماذا؟ لأنه يكتب معرفة، والمعرفة حياة، والحياة أمرٌ خطير في بلاد اعتادت أن تُدار كالمقابر: هادئة، ساكنة، لا ضجيج فيها إلا لمن ينبش.

رأيته بعيني: زياد الرحباني، الذي جاء من رحم فيروز العظيمة، يتلقى وسام الأرز الوطني، لكن وهو مستلقٍ في نعشه، صامتًا لأول مرة، كما لو أن الصمت هو الشرط الوحيد لنيل التكريم في أوطاننا. لم يجدوا وقتًا أنسب لتكريمه من لحظة وداعه. وضعوا الوسام على التابوت، بحنيّة رسمية باردة. كانت الصورة مؤلمة، لا لهيبة الموت، بل لسخرية الحياة. فهنا، الوسام لا يُمنح للموهبة، بل يُمنح مقابل أن تموت أخيرًا!

عربياً، تجد نموذج صلاح عبد الصبور، الذي حوصر حيًا، وامتدح ميتًا. ونجيب سرور، الذي دُفع إلى الجنون، ثم أصبحت قصائده تُدرّس في السر. وفرج فودة، المفكر الذي دفع ثمن كلماته بالدم، ثم أقيمت له الندوات بعد أن صار قبرًا.

وفي الجزائر، الشاعر مفدي زكريا، صاحب النشيد الوطني، عاش منفيًا، وأُهمل في حياته رغم عطائه، وتم تخليد اسمه بعد أن اختفى صوته. وفي سوريا، لم يكن محمد الماغوط مجرد شاعر، بل مرآة متشققة تعكس واقع العرب، لكن ماذا نال؟ عاش فقيرًا، مريضًا، يُضحك الناس ويبكي داخله، ثم مُنح أوسمة بعد أن غادر.

نفس المشهد في المغرب مع المهدي المنجرة، العالم والمفكر، الذي صُنِّف خطيرًا على الأمن الفكري، لأنه كان يُفكر بصوت مرتفع. لم يُحتفَ به إلا بعد موته!

لكن القصة لا تبدأ بزياد، ولا تنتهي عنده. إنها “ترند” تاريخي لا تبطل موضته. اسأل العراق، أرض الحضارات والمكتبات المحروقة. أين علماء العراق؟ أين مثقفوه؟ ستجدهم إما في المنافي، أو تحت التراب، أو في طوابير البطالة ينتظرون قرارًا سياديًا يسمح لهم بالحلم. قامات علمية وثقافية هُشّمت كما تُهشَّم تماثيل الآلهة القديمة، دون أن يرفّ جفنٌ لوزارة، أو ينتبه مسؤولٌ كان مشغولًا بالسرقة.

قائمة طويلة من العمالقة ماتوا مهمومين، مهملين، محاصَرين بالخذلان: غائب طعمة فرمان… روائي المنفى، كتب بغداد من بعيد، وبغداد لم تبعث له حتى تحية. فؤاد التكرلي… الروائي الذي فضح القمع بنصوصٍ خرساء، مات والنخب الثقافية مشغولة بكتابة خطب التعزية.

عبد الرحمن الربيعي… صوت الجنوب المهمَّش، خُذل حيًّا، وحُفرت له جائزة بعد أن دفنوه. عبد الملك نوري موسى كريدي، أحمد خلف، فهد الأسدي … نخبة من الرواة والشعراء، ماتوا دون أن يسمعوا كلمة “شكرًا” من الدولة.

أما إذا دخلنا ميدان الشعر، فالدموع وحدها لا تكفي: حسين مردان… الرجل الذي كتب بروحه، مات غريبًا، لأن الوطن لا يحتمل “زائدَ جرأة”. بدر شاكر السيّاب… مبتكر قصيدة التفعيلة، مات على سريرٍ من الألم، تتقاذفه المستشفيات كما تتقاذفنا العواصم. نازك الملائكة… التي علمتنا أن الشعر أنثى، ماتت صامتة، لم تجد حتى أنشودة وداعٍ تليق بها. سعدي يوسف… آخر الغجر الرحّل في عالم القصيدة، مات كما عاش: خارج النص الرسمي.

محمد مهدي الجواهري، الشاعر الذي نُفي وعانى التهميش، لم يجد راحته إلا في الغربة. كُرّم بعد موته بتمثال، لأن صوته في حياته كان يزعج السلطات. هادي العلوي، المفكر الماركسي، مات في منفاه، وجاءت النخبة تتحدث عن “أثره العظيم” بعد أن مات، وكأنهم اكتشفوه بالصدفة. حسين علي محفوظ، عميد الأدب العراقي، قضى حياته بين المخطوطات واللغات، وتُوفي دون أن تُخصص له دولة كان خدمها حتى النهاية مكانًا بحثيًا لائقًا.

وهناك من مات مرتين: مرة لأن السلطة خذلته، ومرة لأن المعارضة رفضته. سامي مهدي… شاعر اللغة والهوية، تم عزله لأن قاموسه لم يكن يُعجب لجنة “الطهر السياسي”. عبد الرزاق عبد الواحد… صاحب القصيدة التي كانت تصرخ قبل أن تصرخ البنادق، لم يجد من يقول له: “كنت شاعرًا رغم كل شيء”. عبد الوهاب البياتي… رجل المنفى الدائم، جريمته الوحيدة أنه لم يرضَ أن يكون بندقية فكرية لأحد، فظل عالقًا بين التكفير والتجاهل.

والقائمة تطول وتُبكي، بل تُضحك من شدة البكاء. المثقف في العالم العربي كائن مؤجل؛ لا يصبح “قيمة وطنية” إلا إذا سكت نهائيًا عن الكلام المباح.

المثقف العربي لا يجد كرسياً في ندوة، لكنه يُمنح تمثالًا بعد موته. لا يستطيع دفع إيجار بيته، لكن اسمه يُطلق على شارع بعد وفاته. لا يجد من يشتري له كتابًا، لكن كتبه تُعرض في معارض بعد أن يتحلل جسده بسلام. والمفارقة الساخرة أن الجائزة الوحيدة التي يضمنها المثقف في هذه الحياة هي: جائزة ما بعد الموت!

هكذا يُعامَل المثقف في الوطن العربي: إذا قال الحقيقة، فهو “خطر أمني”. إذا سكت، فهو “غير فاعل”. إذا هاجر، فهو “خائن”. وإذا مات… يصبح “رمزًا وطنيًا”. عندها، تبدأ مهرجانات التكريم، وتتنافس الوزارات في إرسال باقات ورد إلى قبره، وكأنهم يعتذرون… متأخرين، كعادة العرب مع الاعتذار.

أيها المثقف العربي، لا تتعب نفسك بالكتابة ولا تحلم بالإنصاف. فالتكريم هنا يبدأ حين تنتهي. متْ فقط، وسيتحول صمتك إلى قصيدة، وتابوتك إلى منصة. ستُمنح الأوسمة لأنك لم تعد تشكل تهديدًا. فالمجد في بلادك لا يُمنح للأحياء… بل يُعلَّق على النعوش.