السعودية تتخطى فجوة التحول قبل ظهورها

يناقش المقال ظاهرة التفاوت في الاستجابة المجتمعية للتحولات الكبرى، مركزًا على التجربة السعودية التي نجحت في استباق الفجوة بفهم مبكر واستراتيجيات وعي وتواصل أعادت تعريف العلاقة مع المستقبل.
في كل مشاريع التحولات الكبرى، يبرز تفاوت طبيعي في استجابة فئات المجتمع المختلفة. هذه الفجوة ليست مقاومة، بل هي ظاهرة إنسانية متكررة وفهمها أساسي لنجاح أي مشروع تغيير جذري.
يقدم هذا المقال تحليلًا لظاهرة التفاوت في التفاعل المجتمعي باعتبارها سمة طبيعية عالمية في مشاريع التغيير الجذري، مع التركيز على الفجوة الزمنيّة والمفاهيميّة بين التحولات المؤسسية السريعة، وبين المجتمع ككائن حي متنوّع الإيقاع. ويبرز المقال فرادة التجربة السعودية، التي نجحت في استباق هذه الفجوة من خلال وعي مؤسسي واستراتيجية تواصل اجتماعي ذكية، مكنتها من احتواء الفجوة قبل أن تتجذر، ضمن رؤية طموحة أعادت تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، والمجتمع والمستقبل.
التحولات الكبرى عالميًا:
التفاوت لا يعني الفشل:
غالبًا ما تتقدم التحولات المؤسسية بوتيرة أسرع من استجابة المجتمع، وهذا لا يعني رفضًا أو تقصيرًا، بل يعكس تنوعًا طبيعيًا في الاستعداد النفسي والثقافي والمعرفي.
أظهرت التجارب العالمية أن هذا التفاوت يعود إلى عوامل متعددة، منها البيئة الاجتماعية، ومستويات التعليم، والخبرات السابقة مع التغيير، والعلاقة التاريخية بين الدولة. وبدلًا من اختزال هذا التفاوت في صورة «ممانعة»، من المهم فهمه كفجوة تفسيرية أو معرفية يمكن التعامل معها بخطاب يراعي التنوع ويعيد الثقة في المشروع التغييري.
التحول لا يُدار فقط بالأوامر والسياسات، بل يحتاج إلى تكيّف وجداني وفهم مشترك. فبينما تتقدم المؤسسات بوتيرة سريعة نحو الأهداف، يتفاعل المجتمع بإيقاعه الخاص، المتأثر بثقافته وبيئته اليومية. وبعض الفئات تحتاج إلى وقت أطول لفهم معنى التغيير وأثره في تفاصيل حياتها.
وعندما يتم تقديم التحولات بلغة إدارية أو تقنية مجردة، دون ربطها بالواقع اليومي للناس، تتسع فجوة التكيّف وتظهر تساؤلات مشروعة:
– ماذا تعني هذه التغييرات لحياتي اليومية؟
– كيف ستؤثر على وضعي؟
– وأين يقع الفرد في هذا المشهد المتسارع؟
هذه التساؤلات ليست رفضًا، بل تعبير عن الحاجة لفهم أعمق ورغبة في الانخراط الحقيقي في قصة التحول. كما تتجلى في تجارب المجتمعات الأخرى. وكلما زادت الأسئلة، زادت الفرصة لبناء خطاب أعمق ومشاركة أكثر وعيًا.
يعكس التفاوت أبعادًا نفسية وعملية مترابطة: نفسيًا، قد يشعر البعض بالتهميش أو الانفصال عن مسار التحول؛ عمليًا، قد يؤدي غياب أدوات الفهم إلى الحيرة والتردد، مما يعوق المشاركة الكاملة في التغيير.
من هنا، تنبع أهمية تطوير خطاب تواصلي يستوعب الفروق المعرفية والثقافية، ويُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمشروع التحولي، بوصفه شريكًا فيه لا مجرد متلقٍ له. لم تعد مقاييس التحول تقتصر على عدد المشاريع والمؤشرات، بل تشمل درجة الانتماء الفاعل، ووضوح السردية الجامعة، وشعور الإنسان بالتمكين والملكية المشتركة.
أدوات ردم الفجوة في التجربة السعودية: التصميم المسبق
لا رد الفعل
لم تكن السياسات الاجتماعية المصاحبة للتحول في السعودية مجرد استجابات لاحقة لتفاوتات ظهرت فجأة، بل صُمّمت كأدوات مبكرة تُفعّل منذ اللحظة الأولى، وجُعل الإنسان في قلب الاستراتيجية، لا في هامش التنفيذ، مما مكّن من احتواء الفجوة قبل أن تبدأ. ومن أبرز هذه الأدوات: تمكين المرأة من خلال توسيع أدوارها في سوق العمل والمجال العام، ودمج نصف المجتمع في السردية الجديدة، وتحقيق توازن اجتماعي يعزز الشراكة ويكسر حواجز التردد أو التهميش. وبرامج الشباب التي استثمرت في قدراتهم عبر التعليم والتدريب والابتكار لرفع مستوى الانخراط وتحويلهم من مستقبلين إلى قادة ضمن مشروع التحول. وجودة الحياة التي حسّنت تفاصيل الحياة اليومية – من الترفيه إلى الثقافة والرياضة – لجعل التحول ملموسًا ومعيشًا، وخلق ارتباط وجداني بين الإنسان والتغيير. بالإضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي عبر بناء بيئة دعم شعوري من خلال الصحة النفسية والحوار المجتمعي لتقليل القلق وتسهيل التكيّف خاصة للفئات التي تحتاج وقتًا أطول.
تميزت السعودية بأنها لم تنتظر الفجوة لتظهر، بل أدخلتها في التصميم الأولي، فجاء التحول اختياريًا، تدريجيًا، وتشاركيًا، وتجلّى ذلك في مؤسسات مثل مركز التواصل الحكومي، وبرنامج جودة الحياة، وبرامج الهوية الثقافية، وبرامج تنمية القدرات التي مكنت المجتمع من الريادة.
ولم يعد النجاح يُقاس فقط بالتقارير والأرقام، بل أيضًا بما يشعر به المواطن من مكانة وارتباط ووضوح في دوره ضمن المشروع الوطني.
استطلاعات الرأي، ورصد اتجاهات الخطاب المجتمعي، والتفاعل في المنصات العامة، كلها أدوات غير مادية لقياس شعور المشاركة والانتماء.
فعندما يعبر المواطن عن رأيه في السياسات علنًا، أو يتفاعل مع الرموز الوطنية بإيجابية، أو يشعر أن التغيير يتحدث بلغته، فإن ذلك مؤشر تقدّم في الوعي والتحول لا يقل عن أي منجز مادي.
وقد أثبت السعوديون عبر مختلف فئاتهم أنهم ليسوا مجرد متلقين للتحول، بل شركاء فاعلون في صناعته، يواكبونه بإبداع ويُرسّخون دعائمه بروح الانتماء والولاء.
وهنا تكمن قوة المشروع الوطني، ليس كمجرد خطة مؤسساتية، بل كقصة شعب يصنع مستقبله بإرادة جماعية صلبة ومتماسكة.
رؤية المملكة: المواطن في قلب التحول
تتجلى أهمية المواطن كشريك أصيل في صناعة التحول الوطني، وهو مبدأ ظل محورًا رئيسيًا ضمن أولويات الدولة منذ إطلاق رؤية المملكة 2030.
وقد أكّد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- هذا الالتزام في الخطاب الملكي السنوي الذي ألقاه نيابةً عن خادم الحرمين الشريفين خلال افتتاح الدورة التاسعة لمجلس الشورى (18 سبتمبر 2024)، حين قال: «منذ إطلاق رؤية المملكة 2030 والمواطن نصب أعيننا؛ فهو عمادها وغايتها، وأي إنجاز يتحقق من خلال مظلتها الشاملة للمسارات المختلفة، هو رفعة للوطن ومنفعة للمواطن وحصانة -بإذن الله- للأجيال القادمة من التقلبات والتغيرات».
هذا التأكيد يعكس استمرار التوجه الوطني الثابت الذي يضع المواطن في قلب بناء المستقبل، ويبرز شراكة المجتمع كركيزة لا غنى عنها في مسيرة التحول.
لا يُبنى التحول الوطني فقط عبر الأنظمة والسياسات، بل يتأسس أيضًا على وعي الناس وإيمانهم العميق بدورهم في صنعه.
ومن هذا المنطلق، لا يقتصر الخطاب الوطني على مهارة الإقناع فقط، بل يمتاز بالاستماع الفعّال، ويوفر فرصًا حقيقية ليكون المواطن شريكًا فاعلًا.
لقد تجاوزت السعودية الفجوة التفسيرية والاجتماعية لأنها احترمتها بوصفها ظاهرة إنسانية، واستعدت لها مبكرًا بأدوات واعية. مشروع التحول السعودي لم يقتصر على تحديث البنى، بل صنع علاقة جديدة بين الإنسان والدولة قائمة على المشاركة والشعور، فصار حراكًا وطنيًا حيًّا لا مجرد مشروع تقني.
بهذا، أصبحت السعودية نموذجًا يحتذى به في إدارة التحولات الوطنية، حيث يصنع الإنسان مستقبل بلاده بإرادة ووعي، وليس فقط عبر خطط وإجراءات.
وهكذا، لم تكن السعودية فقط رائدة في خططها، بل في إنسانيتها في إدارتها.