طحين مختلط بالدم.. وحساء عدس مع العبرات

تقول سيدة غزّاوية، وهي تصف حال الناس في القطاع، إن الطحين تلطّخ بالدم، وإن شوربة العدس امتلأت بالدموع، ولو كانت هذه الصور الغزّاوية الواقعية قد وردت في نصّ شعري قبل حرب القطاع، لقال أحدهم إن هذه سوريالية فوق واقعية لا يجري كتابتها إلّا عبر مخيلة شاعر يحب اللعب على الكلمات.الحقيقة أنها ليست لعباً على الكلمات، بل هي القصة المكتملة لتراجيديا الجوع، تراجيديا الخبز الذي يحلم به الأطفال في غزة حتى ولو كان يابساً.الحقيقة أيضاً أن هذا القطاع الذي يموت بالتدريج، وبالتصوير السريع والبطيء كان يصدّر الورد إلى هولندا في تسعينات القرن العشرين، وذكرت تقارير صحفية آنذاك أن ورد غزّة أكثر جودة من زهور الكثير من البلدان الأوروبية، وكان القطاع آنذاك من أهم مصادر تجارة الأسماك، والحمضيات، البرتقال بشكل خاص، والذي يُسمّى «أبو صرّة».كان الشريط البحري الغزّاوي فضاءً جمالياً لرياضة الصيد والغوص والسباحة، وما من غزّاوي إلّا ويعرف البحر كما يعرف أولاده.لم تكن مفردة الجوع كلمة متداولة في لغة أهل غزّة، وكيف يجوع من أعطاه الله نعمة البرّ والبحر والجوّ. بشر يوميّون عاديّون هم بحّارة وصيادون وحرفيّون، ينطلقون إلى رزق الله مع فجّة الضوء كما يقول البدو كناية عن أوّل طلوع الشمس.وفي العادة، ثمة طبيعة بشرية استثنائية في حياة أهل البحر، فهم ليسوا شرهين مثل سكان المدن المزدحمة بالمطاعم الكبيرة، لا بل لا يحتاج الإنسان البحري عادة في كل ثقافات الشعوب المائية الشواطئية إلّا إلى القليل من الطعام، وإذا جاع يكفيه أن ينشر شبكة صيد فوق وجه الماء.لا يكتب شعراء الشواطئ عادة عن الجوع، لأنه لا يخطر ببال أحد أن يجوع إنسان بالقرب من بحر، لكن رواية السيدة الغزّاوية عن الدم الذي اختلط بالطحين تضع الشعر في مأزق وجودي وفكري، وبما أن الجائع لا يفكر في أي مأزق ثقافي من هذا النوع، فإنه هو نفسه يتحوّل إلى شاعر يتحدث عن تلك الدموع البشرية المختلطة بالعدس أو التراب، تماماً، مثل تلك المرأة الغزّاوية.الجوع كافر، لكن بلاداً إنسانية أخلاقية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة تحارب الجوع بالإيمان، وتعيد في الوقت نفسه الغزّاوي إلى ذاكرته وإلى موروثه البحري والبرّي والجمالي، وتقول له: لا تيأس من الرحمة، ولا تنس حقيقتك البشرية بوصفك كائناً إنسانياً يحب الحياة، ويستحقها.الإمارات بكينونتها الإنسانية السيادية تنقّي خبزة الغزّاوي من الحصى والقش والدمع، وتطعم بيدها الطفل والطير والشجرة والبحر، لكي تقف تلك السيدة الغزاوية على قدميها، قوية كشجرة برتقال.