محمد السادس في الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش: نضج التجربة وفتح الأبواب للمستقبل

في “عيد العرش” الـ26 الذي يتصادف هذا العام مع الذكرى الخمسين لـ”المسيرة الخضراء”، يمكن القول إن المملكة المغربية تعكس من خلال الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس حالة من النضوج التاريخي للتجربة في العديد من المستويات السياسية والاقتصادية والتنموية. فكما قلنا تتقاطع مناسبة “عيد العرش” مع مرور نصف قرن على “المسيرة الخضراء” التي شكلت منعطفاً في مسار المملكة بحيث أعاد إلى التراب الوطني بعد الانسحاب الإسباني من الصحراء الغربية قطعة من التراب الوطني. ومع أن الأعوام الخمسين تميزت بنشوب معركة ديبلوماسية وأمنية مع الجارة الأقرب الجزائر، التي دفعت إلى الأمام مشروعها الخاص بالصحراء عبر دعم حركة “بوليساريو” الانفصالية عبر التمويل والتسليح ومنحها قواعد على الأراضي الجزائرية كانت مهمتها خوض حرب أمنية -عسكرية في محاولة لاستنزاف المغرب ومنعه من إعادة توحيد ترابه الوطني، فقد تمكن المغرب مع مرور الوقت وبكثير من الجهد أن يحرز قفزات كبيرة في سبيل تجميع التأييد العربي والدولي لقضية الصحراء المغربية تحت عنوان المقترح المغربي الذي جرى تقديمه في عام 2007 كحل للنزاع، وذلك بصيغة منح “الحكم الذاتي” تحت السيادة المغربية. وعلى الرغم من أن الجزائر رفضت المقترح وواجهته بحرب ديبلوماسية وأمنية، فقد شق المقترح العقلاني المتوازن الذي طرحه المغرب طريقه نحو انتزاع مجموعة كبيرة من مواقف التأييد عالمياً. شكل إعلان الولايات المتحدة في ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى عام 2020 التطور الأبرز الذي عادت ولحقت به دول كبرى رئيسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا، ما حدا المراقبين إلى اعتبار أن المعادلة انقلبت لمصلحة المشروع المغربي بمواجهة المشروع الجزائري القائم تمويلاً وتسليحاً، على قاعدة افتعال ما يشبه الحرب الأهلية الصحراوية لاستنزاف المغرب ومنعه من توسيع جغرافيته السياسية نحو الجنوب على الواجهة الأطلسية الاستراتيجية. ولكن المغرب نجح من خلال مشروع “المبادرة المغربية لولوج الساحل للمحيط الأطلسي” بعرض مشروع متقدم استند إلى فكرة منح دول الساحل إطلالة على المحيط الأطلسي من خلال التعاون والتكامل الاقتصادي. ويفترض أن تستفيد من المبادرة كل من موريتانيا، السنغال، مالي، النيجر، بوركينا فاسو والتشاد. مؤدى هذه المبادرة أن تجعل من الصحراء الغربية أو المغربية نقطة تقاطع لمصالح مجموعة كبيرة من الدول الأفريقية في منطقة الساحل الشديد الحساسية. ومعنى هذا أن المغرب بفعل موقعه الجغرافي، على تماس بين القارتين الأفريقية والأوروبية، فضلاً عن واجهة متوسطية وأطلسية ممتدة وواسعة جداً، يسهل منها ربط جزء مهم من القارة الأفريقية بمصالح متقاطعة اقتصادية وتنموية، بما يتناقض مع مسعى الجارة الأقرب التي أنشأت تنظيم “البوليسياريو” ليكون نسخة شبيهة بالفصائل الفلسطينية في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، أو شبيهة بالفصائل الإيرانية في لبنان والعراق وسوريا واليمن في تسعينات القرن الماضي ومشروعها نشر حالة من عدم الاستقرار الدائم في محاولة لتفكيك الكيانات ونسف النسيج الاجتماعي في الدول المستهدفة. في خطابه يوم الأربعاء الماضي، جدد العاهل المغربي دعوته للجزائر لحوار صريح ومسؤول بهدف التوصل إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف ويحفظ ماء الوجه. وبالطبع فإن هذه الدعوة أوحت أنها تنم عن تمكن المغرب من اجتياز عقبات كبيرة سابقة وباتت أكثر وثوقاً بعد ضمور المشروع الانفصالي الذي تقوده الجزائر في الصحراء، لا سيما أن الخيارات الجزائرية في سياساتها الخارجية كشفت عن رهانات خاسرة على الصعيدين الدولي والعربي. ومن اللافت أن العديد من المراقبين المتابعين للشأن المغاربي يشبّهون السياسة الخارجية الجزائرية بسياسات مرحلة الحرب الباردة التي ظلت عالقة في المضمون والأسلوب منذ الاستقلال لأكثر من خمسة عقود متتالية. في خطابه هذا العام، تحدث الملك محمد السادس عن التحديات الاقتصادية والتنموية التي تواجهها الدولة، لكنه أظهر ثقة بالمستقبل حيث الحاكم متصالح مع نفسه وتوجهاته. وتبقى قضية الصحراء والعلاقة مع الجزائر التي أصر على إبراز عمقها بين الشعبين وأهميتها بالنسبة إلى المغرب، إلى درجة أنه على الرغم من خمسة عقود من النزاع وصلت في بعض المراحل في الأعوام الأخيرة إلى أبواب حرب جديدة، فإن محمد السادس يمد يده إلى الجارة الأقرب على قاعدة “إربح إربح” المجزية للطرفين بدلاً من “إخسر إخسر” التي يجب تجنبها لمصلحة البلدين. في النهاية لم تعد القوة الحقيقية مبنية على الأرض وحدها، بل إنها اقتصاد تكنولوجيا وتعليم وتمكين لكل الشرائح الاجتماعية. فماذا لو نزعت الجارة عنها عقلية الحرب الباردة وأساليب الديكتاتوريات الباقية من عصر انقضى وطُويت صفحته؟