الانجذاب نحو المنافس: ظاهرة زياد!

الانجذاب نحو المنافس: ظاهرة زياد!

كانت الساعات القليلة التي أعقبت انتشار الخبر الصادم بوفاة زياد الرحباني وحدها كافية للدلالة إلى ما لا يحتاج إلى إثبات حقيقة فنان غدا أسطورة ثالثة من عبقرية والده وموهبة والدته الأيقونية. لذا، بقدر عمق الصدمة، لم يكن غريباً، ولن يكون غريباً أبداً، أن يكون الحزن الجمعي على الفنان الخارق بهذا الحجم الجارف. ولكن المسألة “الأخرى” الموازية هي ما تعني اللبنانيين والمدققين على ضفة باردة لحدث رحيل رمز أسطوري في المكانة الشعبية، عنينا بها الوجه السياسي والعقائدي الملازم لفنه الخارق، وهذا الجانب لا يقل أهمية بما يستلزم الكثير من التدقيق. فليس مغالاة إن قلنا إنه في تاريخ السّيَر الفنية والرموز العملاقة للفن اللبناني العابر إلى عوالم العرب والعالمية، لم يشهد هذا التاريخ من يشبه ظاهرة زياد الرحباني وما أحدثه في عمق الواقع السياسي والطائفي والحزبي عموماً منذ صار رمز مدرسته الفنية المقترنة بعقيدته اليسارية الجذرية، يجمع بينهما مزاج الشخص العابث. لم يسبق أن عرف اللبنانيون رمزاً فنياً يحدث فيهم تمزّقاً كبيراً بين الانجذاب والإعجاب بفنه وشخصه وكونه ابن عاصي الرحباني وفيروز، والانقسام السياسي الحاد الذي كان يضع زياد في مواجهة وخصومة بل وعداوة مع الفئات اللبنانية المناهضة لأيديولوجية زياد اليسارية. بذلك، تشكلت الظاهرة النادرة التي لم تنطبق على سيرة أي رمز أو “أسطورة ” فنية لبنانية تحفل بالرموز ولكن فقط على خلفية المسار الفني والشخصي والكاريسماتي وليس على أي خلفية سياسية عقائدية معها. حتى ليمكن القول إن “التركيبة” الخاصة التي صنعها زياد لنفسه حين خرج من الحلقة العائلية الرحبانية وانتقل جغرافياً ومكانياً وعقائدياً إلى بيروت الغربية بكل ما كانت “الغربية” “والشرقية” تختزنان وتختصران الصراع والانقسام والعداوة وحتى الحرب نفسها بواقعها الملموس المدمّر، هذه التركيبة صنعها في المنحى السياسي الأيديولوجي بكل مزاجه الجارف. ولكن المسألة لا تقف بدلالاتها هنا، بل هي في ظاهرة أن ينجذب الخصم الحاد المختلف مع زياد إلى زياد بانفصام هائل يحدثه صاحب هذه الظاهرة. ولا يمكن في ذلك، ما دامت أيام ما بعد رحيل زياد الرحباني تشهد “انفجاراً” غير مسبوق في المد الإعلامي الهائل لتغطية الرحيل واستعادة كل مسار صاحب السيرة الأسطورية، تجاهل أن زياد الرحباني شكل اختباراً نادراً لقدرة غالبية لبنانية ساحقة بلا شك على أن تنجذب إلى خصم ولا تقبل فقط بخصمها. هكذا كان هذا الاختبار في فرادته، لأن زياد العقائدي كان مستفزاً جداً وحاداً حتى في سخريته العبثية التي كانت تغلّف حدّة خصومته “للمعسكر الآخر”. لذلك والأيام أيام حيرة مصيرية وغموض كبير في مسار لبنان، قد ترانا نذهل حين نسترجع أكبر إنجازات زياد الرحباني خلال سنوات الحرب وبعدها، حين كانت حقائق الانقسام الداخلي تختلط اختلاطاً كبيراً مع حروب الخارج ونزاعاته، بما يفجر الصراع التاريخي حول مسببات الحرب في لبنان. كان زياد ولو أبدع في “فيلم أميركي طويل” على خلفيته اليسارية، يمعن كرفاق عقيدته اليسارية في البعد الطائفي والمناهضة لليمين، بما يرسّخ مفهوم الحرب الأهلية. توفي البارحة زياد الرحباني “الأسطورة الخالدة” فوق بحر انقسامات بلده، ولكنه اخترق دوماً هذا الانقسام التاريخيّ المستدام كما لم يفعل أحد!