تاريخ بدون إطار منهجي

تاريخ بدون إطار منهجي

وليد عثمان

رغم مرور 73 عاماً عليها والتطورات العميقة التي أعقبتها، لا تزال ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 حاضرة في الجدل السياسي العربي وعنواناً لمناقشات مستمرة حول تأثيراتها في خريطة المنطقة. ولا يقلل من حضور هذا الحدث المفصلي ما أعقبه من أحداث اكتسب بعضها صفة الثورة إلى حد شيوع اللفظ وفقدانه، أحياناً، معانيه العميقة. كثير من وهجها تستمده ثورة يوليو من أحد صناعها الذي شق بعدها الصفوف بهدوء واحتل مساحة الرجل الأول ثم استقر عميقاً في الوجدان العربي، ولايزال. ومعظم الهجوم الذي لا تزال هذه الثورة تتعرض له، خاصة في ذكراها، موجّه إلى عبدالناصر المحمي دوماً بسياج عريض من المحبين الذين يرفعه بعضهم إلى مقام فوق المحاسبة والمؤاخذة التاريخية اللازمة بالضرورة عند التعامل مع صناع التحولات الكبرى. وكراهية ثورة يوليو، أو عبدالناصر، وتمجيدها وجعله أكبر من المراجعة الواجبة لمسيرته، حاضراً وغائباً، هي المعبّر الحقيقي عن أزمتنا الكبرى في قراءة التاريخ ورجاله. غالباً ما تنقاد لهذه القراءة للتطرف في إصدار الأحكام، والهوى في تفسير التصرفات، ومجاملة السلطة القائمة، ودغدغة مشاعر الجمهور، والخوف من مواجهته بغير ما استقر في يقينه من «حقائق». لا براءة من ذلك لمن يوصفون بالمؤرخين، وكثيراً ما ثبت انحرافهم عن المنهج العلمي، وإعلاء وقائع وتغييب أخرى، وهو ما فتح المجال لصنف آخر من رواة التاريخ ممن شغلوا مناصب في فترات بعينها، وبعضهم ينشط الآن في وسائل الإعلام باحثاً عن دور أو ضوء، لتقديم تفسيرات عن أحداث أو أشخاص لا تخلو من المجاملات والحسابات. هذا الانفلات في التأريخ يصح على عبدالناصر وثورة يوليو وغيرهما، وإن كان هو أبرز ضحاياه، سواء بوصفه بطل تجربة معصومة من الزلل، كما يرى معظم محبيه، أو سبباً في نكبات لا نزال ندفع ثمنها، وفق ما يقول أعداؤه أو كارهوه أومنتقدوه. ذلك يفرض الدعوة إلى إقامة منهج عربي للتأريخ منزّه عن الأهواء وبعيد عن ثنائية الأبيض والأسود، يتعامل مع أبطال الماضي بقاعدة «ما له وما عليه»، ومع أحداثه بقراءة مستوعبة لكل المقدمات والنتائج، لا تخفي ولا تصادر، ولا تختلق. وإذا كان الأمر متعلقاً الآن بثورة يوليو وأشهر رجالها: عبدالناصر، فإن المنهج المفترض يجب أن يضع أمام الأجيال الجديدة كل ما قيل عن الحدث، سواء بوصفه انقلاباً قطع على مصر طريق تجربة ديمقراطية، أو بداية تحرر من القوى الاستعمارية وهيمنتها على الموارد والقرار. والحكم على الثورة قرين تقييم تجربة عبدالناصر بمعزل عن محبيه وكارهيه، وبأمانة في وضع ما أحسن فيه وما أخفق، لنرى، بميزان حقيقي، أيهما يرجح: الزعيم الملهم المحرر، نصير الفقراء والمهمشين، صانع النهضة الاقتصادية والثقافية، أم المؤسس لنهج شمولي يصادر آراء كل المختلفين معه، بطل أبرز الهزائم العربية. والأهم أن نستوعب بعدها أن عبدالناصر، كغيره، فيه من هذا وذاك، لكن أيهما أكثر أثراً؟