السودان المهجور

السودان المهجور

لا يزال السودان، منذ اندلاع الحرب الأهلية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في نيسان/أبريل 2023، غارقاً في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ المعاصر. فقد تحوّل هذا البلد، الذي كان يُعدّ يوماً “سلة غذاء أفريقيا”، إلى بؤرةٍ للمجاعة والنسيان، بعدما سُرقت الأضواء منه بفعل أحداث أخرى شغلت الإعلام العالمي. وحتى منتصف عام 2025، لقي أكثر من 40 ألف شخص حتفهم، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، وسط اتهامات متكررة بارتكاب جرائم حرب، وتطهير عرقي، وعنف جنسي ضد النساء والأطفال. ما يحدث في السودان اليوم ليس سوى فصل جديد من مسلسل الانحدار المستمر منذ انقلاب الجنرال ابراهيم عبود على الحكم المدني الذي أعقب الاستقلال. والحقيقة المُرّة أن السودان، بعد عامين فقط من نيله الاستقلال في الأول من كانون الثاني/يناير 1956 عن الحكم الثنائي البريطاني–المصري، لم يعرف استقراراً سياسياً حقيقياً. إذ سرعان ما تسلّم العسكر زمام السلطة، رغم أن نظام عبود، الذي دام ست سنوات، أُطيح عبر انتفاضة شعبية في تشرين الأول/أكتوبر 1964. عاد الحكم المدني بعد ذلك، وجرى تشكيل مجلس سيادة جديد، وتعاقب على رئاسة الوزارة كل من الصادق المهدي ومحمد أحمد محجوب. غير أن هذا الحكم كان هشاً وضعيفاً، ما مهّد الطريق لعودة العسكر بقيادة الفريق جعفر محمد النميري، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد من عام 1969 حتى أُطيح في انتفاضة شعبية عام 1985. ثم جاءت فترة المشير عبد الرحمن سوار الذهب الانتقالية، حيث تولى رئاسة المجلس العسكري لمدة عام واحد فقط، ليسلّم بعدها السلطة طوعاً إلى حكومة مدنية منتخبة، في مشهد نادر الحدوث في العالم العربي. هكذا بدأ العهد الديموقراطي الثالث، وتولى الصادق المهدي رئاسة الوزراء، إلى جانب مجلس سيادة جماعي لم تكن لرئيسه صلاحيات تنفيذية فعلية. في عام 1989، تعرض السودان لثالثة الأثافي، جراء انقلاب الفريق عمر حسن البشير، بدعم من الجبهة الإسلامية. وقد استمر حكمه ثلاثة عقود كاملة، شهدت خلالها البلاد انفصال جنوب السودان في عام 2011، قبل أن يُطاح به في نيسان/أبريل 2019 إثر احتجاجات شعبية واسعة. لكن السودان لم يعرف طريقه نحو الهدوء ، واستمرت لعنة العسكر تُطارده. فما بدأه عبود والنميري والبشير، واصله الجنرالان عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). لم يعد السودان اليوم مجرد دولة منكوبة أو تعاني من حرب أهلية، بل أصبح دولة منهارة بالكامل. اقتصادها في الحضيض، خدماتها متهالكة، ومجتمعها مفكك، والتنمية قدّمت استقالتها ورحلت بلا رجعة، أما المدارس والمنشآت ومستقبل الأطفال، فحدّث ولا حرج؛ كل شيء أصبح في مهبّ الفوضى. في أيام حكم البشير، كتب الأديب السوداني الراحل الطيب صالح مقالاً شهيراً في مجلة “المجلة” اللندنية بعنوان: “من أين جاء هؤلاء؟”، تضمّن نقداً لاذعاً للنظام القائم آنذاك. لكن من يقرأ هذا المقال اليوم، يجده صالحاً لكل أزمنة التردّي السوداني، وخاصة في المرحلة الراهنة. يقول الطيب صالح في إحدى فقرات مقاله: “الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنَوِّمونها عنوة ويُغلقون عليها الباب. تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات، لا أضواء في نوافذ البيوت، لا فرح في القلوب، لا ضحك في الحناجر، لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى”. وخلص الطيب صالح في نهاية المقال إلى طرح تساؤلات عميقة تسبر دواخل السلطة: “من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟… ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذاً لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه؟ ويعملون على إعماره وكأنهم مُسخَّرون لخرابه؟”. ما أشبه الأمس باليوم، فالخراب ذاته لا يزال مستمراً… ولعبة النسيان كذلك، والجميع ينتظر خلاصاً قد يأتي، وقد لا يأتي.