المتقاعد يشكل ضغطاً على ميزانية الدولة… دعونا نخفف العبء!

عمر الطبطبائي
في خضم الحديث المتكرّر عن التحديات المالية والضغوط على الميزانية العامة، أُقحم المتقاعد الكويتي، دون وجه حق، في قلب نقاش اقتصادي محكوم بتصورات مضللة وافتراضات غير دقيقة. لقد أصبح الدفاع عن حقوق المتقاعدين يُقدّم وكأنه مطالبة بامتيازات غير مستحقة، بينما الحقيقة الجلية هي أن ما يُطالب به المتقاعدون لا يتجاوز استحقاقهم المشروع وفقاً لعقد اجتماعي تاريخي قامت عليه الدولة الكويتية منذ نشأتها الحديثة.
إن المتقاعد الكويتي لم يطلب مِنّة، ولم يستجدِ عطاءً بل يُطالب بحقه بعد سنوات من الخدمة والبذل والعطاء في مؤسسات الدولة، هو الذي شارك في بناء ما نراه اليوم من استقرار وبنية تحتية وإدارة وطنية، ومن غير المنصف أن يُعامل اليوم باعتباره عبئاً على الدولة أو عنصراً يهدد استدامة المالية العامة. هذا التصور السائد يتجاهل حقيقة أن المتقاعد هو مستهلك نشط، يضخ أمواله في السوق المحلي، ويُعيل أسراً ممتدة، ويستمر في كثير من الحالات، بالمساهمة بخبراته في العمل المجتمعي أو الاستشاري.
من هنا تبرز الحاجة لتغيير النظرة النمطية للمتقاعد من كونه مجرد متلقٍ للمعاش إلى كونه طاقة خبرة يمكن استثمارها في تطوير الأداء العام للدولة، فالمؤسسات الحكومية والمجالس المتخصصة يمكن أن تستفيد بشكل مباشر من طاقات المتقاعدين المهنية، سواء عبر تشكيل لجان استشارية وطنية تضم أصحاب التخصص والخبرة، أو من خلال فتح أبواب المشاركة في المشاريع الحكومية التطويرية كخبراء متطوعين أو بعقود رمزية، بما يُعيد إدماج المتقاعد في دورة صنع القرار ويضفي على السياسات العامة بُعداً عملياً واقعياً مستنداً إلى التجربة الميدانية.
إنّ القول بأن نظام التأمينات الاجتماعية مُعرّض للانهيار بسبب التزامات المعاشات التقاعدية هو قول مُضلّل وغير مدعوم بالأدلة الموضوعية، تقارير ديوان المحاسبة السابقة تشير إلى أن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية قد حققت أرباحاً ضخمة من استثماراتها، تجاوزت التزاماتها السنوية بفارق كبير، وأن مكامن الخلل تكمن في سوء الإدارة أو ضعف الرقابة على تلك الاستثمارات، لا في حقوق المتقاعدين أنفسهم. وعوضاً عن المطالبة بمراجعة الإدارة أو تحسين كفاءتها، يُنقل العبء إلى المتقاعد الذي لا يملك وسيلة للدفاع سوى صوته وصبره.
أما الربط بين زيادة المعاشات التقاعدية وبين المساس بحقوق الأجيال القادمة، فهو اختزال غير عادل، إذ يغفل أن العدالة بين الأجيال لا تعني سحق جيل لصالح آخر، بل تقتضي توزيع الأعباء بشكل متوازن، وأن تبدأ الدولة من حيث الخلل الحقيقي: وقف الهدر، إعادة ترتيب الأولويات، إخضاع المشاريع الكبرى للمراجعة الدقيقة، ومحاربة التضخم غير المنتج في السوق العقاري والاستهلاكي، وإن ضمان حقوق المتقاعد اليوم هو رسالة التزام تجاه الموظف الشاب غداً: أن تعبك لن يُنسى، وأن خدمتك لن تُهدر.
التحدي اليوم ليس في القدرة المالية إنما في الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية، فالدولة التي تملك واحداً من أضخم الصناديق السيادية في العالم، والتي تُخصص مبالغ ضخمة للمساعدات الخارجية والمشاريع الكبرى، قادرة بلا شك على حفظ كرامة من أفنوا أعمارهم في خدمتها، فالتقشف لا يكون على حساب من لا صوت له، والعدالة لا تبنى عبر التضحية بالأضعف.
كما يُمكن للدولة أن تبتكر أدوات مالية جديدة أكثر مرونة وربحاً للمواطن والمتقاعد على حد سواء، من خلال تقديم خيار استثماري تطوعي يعرف بـ«الصكوك التقاعدية»، يُعرض على الراغبين من المتقاعدين لاستثمار جزء من معاشاتهم في أدوات مالية وطنية مضمونة تُستخدم لتمويل مشاريع تنموية تعود بالنفع على الدولة وعلى المستثمر ذاته. هذه الآلية تمثل صيغة شراكة حقيقية بين الدولة ومواطنيها، وتسمح للمتقاعد بالمشاركة في التنمية لا فقط كمستهلك، بل كمموّل وشريك في الإنتاج.
ولعل من أكثر الحلول قابلية للتنفيذ وأقلها كلفة، إنشاء منصة وطنية رقمية تربط المتقاعدين بفرص عمل مرِنة، سواء في القطاع العام أو الخاص، عبر وظائف موقتة أو استشارية أو تدريبية تتناسب مع مؤهلاتهم، فوجود طبيب متقاعد، أو مهندس، أو خبير مالي، لا يعني نهاية عطائه، بل بداية لمرحلة خبرة يمكن أن تُسخّر لصالح الأجيال القادمة. إن هذه المبادرة ليست فقط مصدر دخل إضافي للمتقاعد بل أداة لإعادة الاعتبار لمكانته ومهاراته، ولتقليل اعتماد الدولة على العمالة الوافدة في كثير من المجالات التخصصية.
من يعتبر كرامة المتقاعد عبئاً على الميزانية، فقد أسقط من حسابه معنى الدولة نفسه، والحديث عن الإصلاح المالي يفقد معناه عندما يبدأ من الحلقة الأضعف، فالمتقاعد لم يكن عبئاً يوماً، بل كان هو من حمل العبء حين كانت الدولة بحاجة إليه.
واليوم، حين تحوّلت معادلات التقشف إلى قوالب مُحاسبية باردة، أصبح يختزل إلى رقم، ويعاد تعريفه وفق كلفته لا قيمته، وهذه سقطة لا يبررها عجز ولا يغسلها تبرير.
إذا كانت هناك جدية في إصلاح حقيقي، فالبداية من حيث تُهدر المليارات، لا من رواتب المتقاعدين الذين انتهى بهم العمر إلى القلق بدل الراحة.
العدالة الاجتماعية لا تبدأ حين تنتهي الوفرة، بل تُبنى قبل ذلك بزمن طويل، والمطلوب أن تحتفظ بمعناها، انسجاماً مع دولة القانون والمؤسسات!
اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيدا.