ضحايا الكوت.. وأول المعزين رموز الفساد!

عندما نقرأ البيتين التَّاليين في الفساد نقرأهما للتسلية: “مرَّ الجرادُ على زرعي فقلت له/ الزمْ طريقك لا تولعْ بإفسادِ/ فقال منهم خطيبٌ فوقَ سُنبلةٍ/ إنّا على سفرٍ لا بدّ مِن زادِ”. يقول الجاحظ(تـ: 255هـ): قالهما “أعرابي مِن بني حنيفة، وهو يمزح”(البيان والتَّبيين). مع أنَّها حقيقة مفجعة، يجرد الجراد، والاسم منحوت مِن الفعل، الزَّرع المؤمل، فتكون عام رمادة ثانية(18هـ)، كان الرّماد فيها يملأ الأفواه بدل الطّعام والماء.
أحسبُ أنَّ الفاسدين أنفسهم يتداولون هذين البيتين للفكاهةِ والمزحِ، ولا إحساس بمَا يُرتقب مِن جوعٍ كافرٍ؛ بعد موسم الجراد الظَّالم؛ لكنَّ للجراد موسماً، وينفع صيده طعاماً، أما جراد العراق اليوم الفصول كافة مواسمه؛ وما كارثة الكوت إلا ثمرة مِن ثماره في (17/7/2025)، وهو يوم مشهود يتذكره العراقيون.
منذ نحو ثلاثة وعشرين عاماً؛ مَن يقرأ البيتين أو يسمع بهما، يتذكر العِراق، وقصص الفساد الخياليّة، يعجز عن تأليفها أمهر القصاصين؛ أن تضيع ستمائة مليار دولار، ولا يعرف أي بنك مِن بنوك الجار الجنب حواها. كنا نظن أنَّ الفساد لا يؤدي إلى الموت الجماعيّ، غير أنَّ للفساد العراقي خاصية، يترجم بأدوات الموت بلا تأجيل.
إنَّه مدرسة جديدة، اخترعتها الجماعات الدّ]نية، وسُجلت البراءة باسمها؛ لا تدخل رقم المليون في حساباتها لاحتقاره؛ تفتح فصولها لأرقام المليارات المهولة؛ وبدأ تطبيق الاختراع بمقولة “مجهول المالك”، وقبله تطبيق “الذّوبان في الخميني”، فإذابة الأوطان مِن أشد الفسادات، وتشريع الخيانات؛ كلُّ حزبه مدَّ أنبوبه إلى البحر، وباع حصته، حتَّى صار عراك في على وزارة النِّفط. أوضح نموذج للفساد الطّاغي: يُعرض مشروع تشييد جسرٍ، يباع إلى آخر، والآخر يبيعه إلى آخر، والنتيجة لا وجود للجسر.
تجده أخطر ملفاً، تشارك فيه أحزاب وأجهزة ودول؛ خرج وزير صحة سابق ناصع الضَّمير، قُدم له شراء أجهزة طبية بمئتي مليون دولار، ولما عمل بحثه وجدها بخمسة عشر مليوناً، لكنه لم يستطع التأثير، فاضطر إلى الاستعفاء. في وزارة دعوية، وصلت أجهزة كاشفة للمتفجرات، فظهرت ترشد المفجرين؛ الحديث سيطول ويطول جداً.
عودة إلى بدئه، كان الجو خانقاً، فجذب النّاس المول(هايبر ماركت) المفتوح قبل أسبوع فقط، بخمسة طوابق؛ انفجر جهاز تكييف وشب حريق، ولأنَّ (هايبر)، والسلام على فخامة الاسم، كان خالياً مِن وسائل السَّلامة، قضى نحب من قضى، والأموات يتزايدون.
كانت كارثة الكوت مِن ثمرات الفساد، وهي المحافظة الجنوبيَّة، التي شيدت بحدود واسط، التي بناها الحجَّاج بن يوسف الثّقفي(تـ: 95هـ)، أراد بها التّوسط بين الكوفة والبصرة، وهو أمير العراق؛ أنستها هذه الحادثة السِّجن المفتوح للحر والبرد، واستحداث سجن النساء أول مرة بها، ومع قسوته وجبروته لم يكن الحجَّاج فاسداً بالمال، ليس صاحب أطيان ولا قصور.
أما ما يجري بالعراق اليوم يجمع بين القسوة والفساد والعمالة المفضوحة باسم “الولاية”؛ فكم قاضي سقط قتيلاً برصاص الفاسدين؟ وللحفاظ على الفاسدين قُتل المتظاهرون (2019)، فشعارهم كان “نريد وطناً” ومع الفساد والنفوذ الولائي الحامي، لا يكون وطناً؛ فالصَّوت الهادر مِن أفواه المتظاهرين كان لوقف الفساد؛ وها هي النتيجة، أن يحترق ويخنتق بطرفة عين سبعون مواطناً والعدد في تزايد، وبينهم أسر فنيت كاملةً. فكم الرشى التي دفعها صاحب (هايبر)؛ لأخذ شهادة سلامة المبنى؟
كم من كارثة أسدل عليها السّتار؛ يهرب قادة داعش مِن سجون بغداد، وأيام يحتلون الموصل، والثَّمن هو خلق عذر لتشكيل حرس الثوري، وألف وسبعمائة شاب يذبحون في سبايكر، كي يُخلق العذر بتثوير الطَّائفية، ويُفجر المرقد بسامراء في ليلة قمراء، ويغلق التَّحقيق.
أ رأيتم مواساة حيتان الفساد؛ وأنا أشاهد مواساتهم تذكرت مزاح المزارع عندما ناشد الجراد؛ هؤلاء يمزحون بمواساتهم. قام الفاسدون كافة بالمواسات، وهم قتلة الشَّباب المتظاهرين، ولم يبقوا زاوية لم يفسدوا فيها؛ لكن أبلغ سخرية بينهم مَن قال: “أعزي المهدي المنتظر”، قيلت العبارة نفسها بغرقى جسر الأئمة(2006)، وتقال في الكوارث كافة.