السويداء تعاني من آثار موسم الحصاد في تركيا

ثمّة مسألتان يجب النظر إليهما كي نميط اللثام عن حقيقة ما يجري في مدينة السويداء: موسم الحصاد التركي، والمنهج السياسي لنظام الحكم في سوريا. وهاتان المسألتان ليستا منفصلتين عمّا يجري على الأرض السورية من عمليات تطهير طائفي وديني، وعنف وعنف مضاد. ولا نعلم بعد كيف سيتم حلّ المسألة القومية الكردية مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لاحقًا. فإذا أرادت حكومة دمشق، ومن ورائها تركيا، المضي في “الحل” على الطريقة التي تم التعامل بها في الساحل السوري، أو في جرمانا وصحنايا، والآن في السويداء، فإنَّ السوريين على موعد مع أيام قاتمة ومخضبة بالدم، خصوصًا أنَّ مآلات الأمور ستكون مرهونة بتوازنات القوى في المنطقة.
جني الثمار
لن تمرّ مرحلة “قطاف الثمار” الذي تقوم به تركيا في موسم حصادها مرور الكرام. إسرائيل وعدت بإنشاء مشروع شرق أوسطي جديد. وبعد أن تمّ تقليم أظافر النفوذ القومي الإيراني، وفرض التراجع عليه، فإنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التمدد التركي في المنطقة.
وكما ادّعت تركيا دعم الميليشيات والعصابات الإسلامية من كل حدب وصوب في سوريا إبان ما سُمّي “بالربيع العربي”، تحت ذريعة قمع نظام بشار الأسد للشعب السوري، وتوّجت تلك الذريعة بمشروع إسقاط النظام في دمشق؛ ها هي إسرائيل اليوم تستغل الحملة العسكرية التي تشنها ميليشيا “هيئة تحرير الشام” بالأمس واليوم تحت عباءة الجيش السوري، والتي كان يترأسها الجولاني سابقًا، والشرع حاليًا، على السويداء، تشن غارات جوية بذريعة “حماية الدروز” في الجنوب السوري.
فبعد احتفالات حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بمراسم نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، ورفع أردوغان شعاره في خطابه بالمناسبة بـ “تركيا خالية من الإرهاب”، ثم جاء التصريح اللافت من المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم بارك، بأنَّ الولايات المتحدة لن تسمح بقيام كيان كردي، وأنها تدعم وحدة سوريا، مع دعوته إلى دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجيش السوري — وكل ذلك في اجتماع بدمشق جمع مظلوم عبدي، قائد قسد، بوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني — كل هذه التطورات مهدت لتركيا بتفويض حكومة الشرع على شنّ حملة عسكرية على السويداء، لبسط نفوذها هناك، باعتبارها المرحلة التالية، أو تمهيدًا لإخضاع منطقة شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قسد، تحت ما يُسمى بوحدة الدولة السورية.
ليست معضلة إسرائيل مع الإدارة الجديدة في دمشق، فقد التقى مسؤولوها بالفعل بعددٍ قبل أيام في أذربيجان، بأحمد الشرع، حيث وُضعت خارطة طريق، برعاية أمريكية، لتصفية الملفات الأمنية، ووضع الأسس الأولية لمسار التطبيع.
إنَّ جوهر المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل لا يكمن في دمشق، بل في تركيا، صاحبة اليد الطولى في سوريا، وتمددها المتزايد في المنطقة، سواء من خلال قواعدها العسكرية في العراق، أو عبر وجودها العسكري المباشر في سوريا، وسعيها الحثيث لإنشاء قاعدة عسكرية كبرى هناك. وقد تكللت هذه الجهود مؤخرًا بنجاحها في تنصيب حكومة سورية موالية لها من فصالها وحياكتها.
والجدير بالذكر، أن أبرز مفارقة ساخرة في المشهد السياسي الراهن، تكمن في أن دولة تتبنّى فعليًا عقيدة نازية مثل إسرائيل، تتصدّر مشهد الدفاع عن الطائفة الدرزية – أو بالأحرى، عن السكان المصنّفين كـ”دروز” في مدينة السويداء. فالدولة ذاتها، الغارقة حتى رأسها في دماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين، تمارس حصارًا وتجويعًا ممنهجًا على من تبقى منهم، إما لدفنهم تحت وطأة الجوع والمرض، أو لاقتلاعهم من أرضهم ضمن سياسة واضحة للتطهير القومي والإبادة الجماعية. هذه الدولة، التي يرأس حكومتها شخص مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لا تجد حرجًا في أن يخرج وزير خارجيتها ليُحاضر على العالم في الأخلاق، منتقدًا “صمت المجتمع الدولي” على ما أسماه “جرائم نظام الشرع ضد الدروز في سوريا”. وكأنّ الضمير الإنساني والأخلاقي قد استيقظ فجأة في قلب هذه الدولة ليحرّك آلتها العسكرية نحو قصف جيش الشرع في السويداء ودمشق وأريافهما، بحجة “حماية الدروز”.
المنهج السياسي لحكومة الجولاني
كان من المفترض أن تُعلن اللجنة التحقيقية التي شكّلتها حكومة “الشرع” تقريرها النهائي حول أحداث الساحل، وخاصة الجرائم التي ارتُكبت بحق المدنيين من أبناء الطائفة العلوية في مدينتي اللاذقية وطرطوس، والتي راح ضحيتها أكثر من ألف شخص من الأطفال والنساء والشباب. لكن، بالرغم من مرور أكثر من أسبوع على انتهاء المهلة المحددة، لم يُعلَن شيء حتى الآن.
تُثبت حكومة الشرع أو بأدق العبارة حكومة الجولاني، مرة أخرى أن كل مزاعمها حول التغيير واحترام حقوق المواطنة، ليست سوى أكاذيب تهدف إلى انتزاع شرعية دولية، وأن لجانها التحقيقية لا تختلف عن تلك التي تُشكّل في العراق أو ليبيا أو اليمن وسائر الدول الفاشلة، والتي تُستخدم كأدوات لإخفاء الحقيقة، رهاناً على النسيان أو ضعف الذاكرة الجمعية.
وما شجّع حكومة الجولاني على التوجّه نحو السويداء وشنّ حملتها العسكرية على سكان المدينة، بالرغم من وجود اتفاقات سابقة بينها وبين شيوخ الطائفة الدرزية، هو قرار الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات الاقتصادية عنها، أي الاعتراف الغربي بحكومة نُصّبت على ظهور الدبابات التركية. كما تم شطب “هيئة تحرير الشام” – التي يرأسها الشرع، أو الجولاني سابقًا – من قوائم الإرهاب الأميركية. والمفارقة الساخرة هنا أن القرار الأميركي استند إلى تقارير استخباراتية تزعم عدم وجود أي نشاط منسق بين الهيئة وتنظيم القاعدة خلال الأشهر الأخيرة!
هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى الدعم العسكري والسياسي والاستخباراتي المطلق من تركيا، دفعت الشرع إلى إرسال ميليشياته نحو السويداء لاخضاعها.
أما ما قيل عن “اختطاف تاجر درزي” كشرارة أشعلت المعارك بين الميليشيات الدرزية وميليشيا هيئة تحرير الشام، المتخفّية تحت غطاء “الجيش السوري”، فليس سوى ذريعة مكشوفة. فالأوضاع تشبه غابة يابسة في ذروة موسم الحر والجفاف؛ لا تحتاج إلا إلى شرارة صغيرة لتشتعل بكاملها. بمعنى آخر، فإن الأرضية كانت مهيّأة تمامًا لانفجار موجة العنف، والعنف المضاد.
سوريا ساحة صراع جيوسياسي:
بقيت سوريا اليوم ساحة صراع جيوسياسي معقّد، واليوم أصبحت إحدى ميادين إعادة ترتيب أوراق “الشرق الأوسط الجديد” عبر الحروب، والتصفيات الجسدية، وعمليات التطهير الديني والطائفي والقومي.
إنَّ المعضلة الحقيقية في المشهد السوري هي منهجية الحكومة التي نصبت عبر الدبابات التركية، أي حكومة الجولاني أو الشرع. فسياساتها القائمة على تصفية المعارضين من خلال القمع، وبدعم مباشر من تركيا، تقف وراء أحداث الساحل والسويداء، وقد نشهد تكرار المشهد غدًا في شرق الفرات.
إنَّ سياسة الأنظمة القومية القائمة في المنطقة تقوم على فرض هوية أحادية على المجتمع بالقوة والإكراه. لكن حين تتفكك الدولة القومية، لا يمكن إعادة اللحمة الاجتماعية عبر “الكيّ” أو القمع، وهذا ما أثبتته التجارب في العراق، وليبيا، واليوم في سوريا.
لقد كانت السمة الأبرز للدولة القومية أنها لم تستمر إلا عبر الاستبداد، مستخدمة القمع وعمليات التطهير القومي والديني، وصولًا إلى الإبادة الجماعية، كما حدث في العراق في عهد نظام صدام حسين ضد القومية الكردية، أو في الدولة القومية الأتاتوركية في تركيا، لفرض هوية قومية واحدة على مجتمعات متعددة القوميات والإثنيات، وبدعم مباشر من الغرب عمومًا.
غير أنَّ هذا النموذج فشل فشلًا ذريعًا، ولم يعد من الممكن الدفاع عنه تحت شعارات “وحدة الدولة” أو “وحدة التراب الوطني”. وعلى الغرب الرسمي أن يتوقف عن دعم الأنظمة القومية القمعية، أو الجماعات الإسلامية التي فشلت هي الأخرى في تقديم نموذج بديل وناجح للدولة، كما أثبتت تجربة ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، ويشكّل ما نشهده اليوم في سوريا مثالًا حيًّا على ذلك.
والحق يُقال، إنه بقدر ما دعم الغرب الرسمي الأنظمة القومية في المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا واستخباراتيًا، فإنه في الوقت ذاته ساهم في تغذية الفيروسات القومية والطائفية والدينية والعرقية، لإشعال الصراعات متى ما تعارضت مصالحه مع مصالح تلك الدول. والتجارب العالمية على ذلك عديدة، كما حدث في القرن المنصرم حرب البلقان، وفي الجمهوريات السوفييتية السابقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي السودان وبلدان أخرى في منطقتنا، وتجربة العراق غنية بالعبر والدروس بعد غزوه واحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
لقد ساهم إدخال مصطلح “حماية الأقليات” بدلًا من “المساواة” و”العلمانية” في الأدبيات السياسية، في تكريس منهجية غربية تهدف إلى إبقاء الباب مفتوحًا للتدخل الخارجي، وتغذية الانقسامات العرقية والطائفية والقومية.
وأخيرًا، فإنَّ سوريا — إذا أرادت أن تبقى كجغرافيا موحّدة، وتسحب البساط من تحت أقدام إسرائيل وتركيا وإيران، الذين يبررون تدخلهم تحت شعارات مثل “حماية السيادة” أو “الدفاع عن المراقد” أو “حماية الأقليات” — عليها أن تبدأ في إرساء حكم ديمقراطي حقيقي، لا يقوم على عقيدة قمعية متجذرة، بل على احترام الحقوق والحريات وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بعيدًا عن التسلط.