كيفية الاستعداد لمواجهات الفضاء

في إحدى القاعات المليئة بالشاشات في ضواحي دنفر بولاية كولورادو، يعلو صوت أحد العناصر قائلاً: “إطلاق من اليمن!”، وسرعان ما يرد الفريق بصوت جماعي: “رُصد”.
هؤلاء ليسوا جنوداً بالمعنى التقليدي، بل يُعرفون داخل قوة الفضاء الأمريكية بـ”الحرّاس”، ومهمتهم رصد أي عملية إطلاق صاروخية في أي مكان على الكرة الأرضية، باستخدام شبكة من الأقمار الاصطناعية العسكرية التي ترسل بيانات لحظية عن مصدر الإطلاق، واتجاه الصاروخ، ونقطة سقوطه المحتملة.
مؤخراً، حصل فريق “بي بي سي” على إذن ليس متاحاً للجميع، لدخول غرفة العمليات الخاصة بالإنذار المبكر وتتبع الصواريخ في قاعدة “باكلي”، وهي إحدى النقاط المركزية في منظومة الدفاع الفضائي الأمريكي، وتعمل على مدار الساعة دون توقف.
في الداخل، يجلس الحرّاس أمام شاشات ضخمة تعرض بيانات حرارية وخرائط تُحدَّث لحظة بلحظة، تُظهر إشارات الأشعة تحت الحمراء التي تصدر عند إطلاق أي صاروخ في العالم.
بعد لحظات من إعلان “إطلاق من اليمن”، يأتي نداء جديد: “إطلاق من إيران”، ويليه رد جماعي: “رٌصد”.
هذه المرة، لم تكن العملية حقيقية بل تدريباً، لكن وقائع مماثلة حدثت بالفعل قبل أسابيع، عندما أطلقت إيران صواريخ باتجاه قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر، رداً على ضربات أمريكية وإسرائيلية استهدفتها.
تحدثنا إلى العقيد آن هيوز، ووصفت الأجواء في ذلك اليوم بأنها كانت “متوترة”، لكن على عكس معظم عمليات الإطلاق السابقة، كان لديهم تحذير مسبق بالعملية، وتمكنوا من تتبع تلك الصواريخ الإيرانية ثم تزويد بطاريات الدفاع الجوي على الأرض بالمعلومات.
وتضيف: “نجحنا في حماية القاعدة وكل من فيها”، مؤكدة أهمية سرعة الرصد ودقة المعلومات في تفادي خسائر كبيرة.
تقول العقيد آن هيوز، إن وحدتها كانت مشغولة بشدة خلال السنوات الأخيرة، بمراقبة الحروب المشتعلة في كل من الشرق الأوسط وأوروبا.
عندما سألتها عما إذا كانوا يوجهون تحذيرات لأوكرانيا، أجابت العقيد آن: “نقدم تحذيرات صاروخية استراتيجية وتكتيكية لجميع القوات الأمريكية وحلفائها”.
ولم تؤكد الولايات المتحدة علناً تقديم تحذيرات لأوكرانيا، ولكن من المرجح أنها ربما أبلغت كييف مسبقاً عن الهجوم الروسي الوشيك.
قاعدة باكلي لقوة الفضاء ستصبح الجزء الرئيسي في خطط الرئيس دونالد ترامب، لإنشاء درع دفاعي صاروخي أمريكي، يُعرف باسم “القبة الذهبية.”
وأعلن ترامب عن 175 مليار دولار لهذا البرنامج الطموح، وهو مستوحى من نظام “القبة الحديدية” الإسرائيلي للدفاع الصاروخي، لكن هناك اعتقاد أن تكلفته ستزيد عن مخصصات ترامب بكثير.
ومع هذا فإن التجهيزات الأساسية لهذه القبة موجودة بالفعل في قاعدة باكلي، حيث تنتشر “رادومات” ضخمة تُشبه كرات الغولف العملاقة، تحمي بداخلها أطباقاً لاقطة متطورة تتواصل مع شبكة أقمار صناعية عسكرية.
ونجحت مصفوفات الأقمار الصناعية هذه في استقبال موجات تردد لاسلكي من نجم متوهج “مستعر أعظم” على مسافة 11 ألف سنة ضوئية.
ويرى الفريق ديفيد ميلر، قائد قيادة عمليات الفضاء الأمريكية، أن تطوير القبة الذهبية، وهو في مراحله الأولى، يمثل عترافاً بالتهديدات المتزايدة للأراضي الأمريكية.
وهنا يذكر ميلر تهديدات من الصين وروسيا تحديداً.
وطورت روسيا والصين صواريخ فرط صوتية، تفوق سرعتها سرعة الصوت بأكثر من خمسة أضعاف، كما اختبرتا أنظمة إطلاق مدارية جزئياً، تخرج خارج الغلاف الجوي، يصعب تتبعها.
ويقول الفريق ميلر: “إن السرعة والفيزياء اللازمة لاعتراض هذه الصواريخ تتطلبان دراسة أنظمة اعتراض فضائية”.
لكنه يفضل في هذه المرحلة الحديث عن “القدرات” للدفاع عن مصالح أمريكا، بدلاً من الحديث عن الأسلحة الفضائية.

وقد شكل إنشاء “قوة الفضاء الأمريكية” قبل خمس سنوات شكّل إعلاناً واضحاً بأن الفضاء بات ميداناً للحرب، وأطلق الرئيس دونالد ترمب هذا الفرع العسكري الجديد في ولايته الأولى، واصفاً الفضاء بأنه “أحدث ساحة قتال في العالم”.
واختبرت كلٌّ من روسيا والصين صواريخ مضادة للأقمار الصناعية، إلى جانب تقنيات للتشويش على الاتصالات الفضائية.
ويقول الفريق ديفيد ميلر إن روسيا “أظهرت قدرة محتملة على وضع رؤوس نووية في الفضاء”، مضيفاً أن “الفضاء بات مجالاً متنازعاً عليه بشدة”، وأن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لـ”نزاع قد ينشب هناك”.
في ولاية كولورادو، تُشرف العقيد فينيكس هاوزر على وحدة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع التابعة لقوة الفضاء، والمعروفة باسم “دلتا 7″، وتتمثّل مهمتهم في رصد ما يجري خارج الغلاف الجوي، بدقة وعلى مدار الساعة.
من داخل قاعدتهم قرب مدينة كولورادو سبرينغز، تتابع الفرق صوراً على الشاشات تُظهر آلاف النقاط الصغيرة تدور حول الأرض، ويبلغ عدد الأقمار الصناعية الموجودة حالياً نحو 12 ألف قمر، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 60 ألفاً بحلول نهاية العقد.
تقول العقيد هاوزر إن تركيزهم الرئيسي ينصبّ على الصين، واصفة إياها بأنها “التهديد المتسارع”، حيث تمتلك الصين حالياً نحو ألف قمر صناعي، نصفها يُستخدم لأغراض عسكرية، ومن المرجّح أن تطلق عشرات الآلاف من الأقمار الإضافية في مدار الأرض المنخفض خلال السنوات المقبلة.
وتحذّر هاوزر من أن الفضاء أصبح “مزدحماً ومتعدد الأقطاب”، وتشير إلى أن الاشتباك في الفضاء قد بدأ فعلياً، وتقول: “نشهد سلوكاً غير مهني وخطيراً من قبل خصومنا، من خلال اقتراب أقمارهم الصناعية بشكل غير آمن”.
وتوضح أن بعض هذه الأقمار مزوّد بأدوات للتشويش الإلكتروني، وأشعة ليزر، بل وحتى بشباك وأذرع آلية يمكن استخدامها لتحريك أقمار صناعية أخرى عن مسارها.
وتُطرح اليوم تساؤلات عمّا إذا كانت “معارك جوية” تشبه أفلام الحرب الجوية تحدث بالفعل في الفضاء.
لكن العقيد هاوزر ترد بحذر: “لا أعتقد أننا وصلنا بعد إلى مستوى الاشتباك الفضائي المباشر كما في أفلام Top Gun، لكن لا شك أن علينا الاستعداد لهذا النوع من المواجهات”.

تستعد قوة الفضاء الأمريكية لاحتمال نشوب صراع في الفضاء، وبحسب العقيد فينيكس إنه قبل عام واحد فقط “لم يكن بالإمكان الحديث عن امتلاك قدرات فضائية هجومية”، أما الآن ينصب التركيز على تقديم “خيارات” للرئيس حتى نتمكن من “تحقيق التفوق الفضائي والحفاظ عليه من خلال السيطرة الفضائية هجوماً ودفاعاً.”
ويقول الفريق ميلر إن السبيل الوحيد لمنع الصراع هو “امتلاك القوة، ويجب أن نمتلك قدراتنا الخاصة للدفاع عن مصالحها”.
ولم يوضح ميلر ما يقصده تحديداً من هذه الكلمات.
لكن الضربات الأمريكية الأخيرة على البرنامج النووي الإيراني، المعروفة باسم “عملية مطرقة منتصف الليل”، تُعطي لمحة عما تستطيع قوة الفضاء الأمريكية فعله على أرض الواقع.
كما تؤكد الهجمات التي شنتها قاذفات بي-2 الاستراتيجية أهمية استمرار الهيمنة الفضائية للجيش الأمريكي.
ويضيف ميلر: “علينا أن نفهم مدى اهتمام الجيش الأمريكي بالمميزات التي نستمدها من الفضاء”، ويشمل ذلك القدرة على الملاحة والتواصل عبر الأفق، وتوجيه ضربات دقيقة باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
وحصلت بي بي سي على أول تفاصيل حول كيفية مشاركة حُراس قوة الفضاء الأمريكية في عملية ضرب إيران، حيث تحدث الفريق ميلر عن المشاركة في الخطة، وقال: “من بين ما قدمناه تعزيز قدراتنا في الحرب الإلكترونية أو الكهرومغناطيسية لضمان الهيمنة طوال العملية”، وتشمل السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي وعدم التشويش، وهو يتكون من موجات الراديو، والموجات الدقيقة، والأشعة تحت الحمراء، والضوء المرئي.
ويضيف: “كنا نعلم أن البيئة ستكون مشوشة”، وحرصت قوة الفضاء الأمريكية على منع التشويش حتى تتمكن قاذفات بي-2 من الوصول إلى هدفها وإطلاق قنابلها الثقيلة بدقة والموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

على الأرض، كانت وحدات الحرب الإلكترونية التابعة لـ”دلتا 3″ في قوة الفضاء الأمريكية تعمل في المنطقة.
أطلعنا قائدهم، العقيد أنجيلو فرنانديز، على الأطباق اللاقطة المتطورة وحاويات القيادة التي يمكنها توجيه الأقمار الصناعية إلى أي مكان في العالم.
ويقول إن هذه الأطباق يمكن استخدامها لاعتراض اتصالات قوات العدو ثم التشويش عليها، من خلال “بث ضوضاء أعلى”.
ويضيف: “لقد تمكنوا من حماية الأصول الأمريكية بالإضافة إلى تأمين ممر جوي”.
قبل وأثناء وبعد المهمة، كان حراس قوة الفضاء الأمريكية دلتا 7 يقومون بالمراقبة.
وتقول العقيد فينيكس هاوزر، إنهم تمكنوا من مراقبة الطيف الكهرومغناطيسي “لفهم ما إذا كانت إيران على علم بما يحدث أثناء الهجوم، وهل لديهم أي تحذير تكتيكي باحتمالية وقوع الضربات.”
وساعدت السيطرة على الطيف المغناطيسي واستخدام الحرب الإلكترونية في الحفاظ على عنصر المفاجأة وسمح للقوات الجوية بإكمال المهمة دون أن يتم اكتشافهم.
قد تكون قوة الفضاء الأمريكية أحدث فرع عسكري، لكنها بالغة الأهمية للقوة العسكرية الأمريكية.
ويقول الفريق ميلر إن الجيش الأمريكي بأكمله “يعتمد على التفوق الفضائي”، ويريد ضمان استمرار هذا الوضع، محذراً أي عدو: “عندما يركز الجيش الأمريكي على عمل شيء ما، ليكن الله في عونكم!”