لبنان في ظل التغييرات الإقليمية

لبنان في ظل التغييرات الإقليمية

في خضمّ التحوّلات الإقليمية المتسارعة، من استعادة العلاقات الدبلوماسية بين خصوم الأمس، إلى إطلاق مشاريع طموحة تُعيد صياغة مفهوم الدولة الحديثة في الشرق الأوسط، يقف لبنان في موقع المراقب العاجز، كأنّ ما يحدث من حوله لا يعنيه. لا لأن لبنان يفتقد إلى الموارد أو الطاقات البشرية، بل لأن البنية السياسية فيه ما زالت مأخوذة بمنطق الماضي، تعمل بأدوات قديمة في واقع تغيّر بشكل جذري.

ما زال منطق المحاصصة الطائفية يطغى على كل مقاربة للحكم، ويحول دون قيام مؤسسات رشيقة وفاعلة. وبالرغم من الانهيار المالي الذي لم يسبق له مثيل، وبالرغم من تفكك الخدمات العامة، وبالرغم من موجات الهجرة المتكررة، فإنّ الخطاب السياسي الداخلي ما زال يدور في حلقة مفرغة، تتكرر فيها الشعارات، وتُعاد فيها اصطفافات لا تعكس طموحات المجتمع اللبناني، خصوصًا شريحة الشباب التي باتت تشعر بالغربة داخل وطنها.

لا ينفصل مأزق الحكم في لبنان عن الإطار الإقليمي، لكنه أيضًا لا يمكن عزوه إليه بالكامل. لقد كانت التحالفات الإقليمية سابقًا مبررًا لتأخير الاستحقاقات وتعطيل الإصلاحات، إلا أن التبدلات الأخيرة – وأبرزها تقارب أطراف كانت متخاصمة، وانفتاح الخليج على مروحة شراكات جديدة – تُظهر بوضوح أن من لا يُعدّل تموضعه، يفوّت الفرصة.

لكن الغائب عن المشهد اللبناني هو القراءة الجريئة لتلك الفرصة. فحتى اللحظة، لم يظهر تيار سياسي يملك رؤية وطنية قادرة على تجاوز المنظومة الطائفية دون الوقوع في التبسيط أو المغامرة. كما لم تتكوّن بعد في مراكز القرار قناعة جديّة بأن النظام الحالي، وإنْ أدار البلاد لعقود، لم يعد قادرًا على الاستمرار من دون إعادة نظر جوهرية.

في المقابل، تسجّل الساحة اللبنانية حيوية اجتماعية لا يُستهان بها. فالاحتجاجات السابقة، وإن لم تؤدِ إلى تغييرات فورية، أفرزت وعيًا جمعيًا جديدًا، ودفعت بالعديد من المبادرات المدنية إلى الأمام. ثمّة إدراك متنامٍ لدى قطاعات واسعة من اللبنانيين بأن تجاوز الأزمة يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بعيدًا عن الوصاية الطائفية أو التبعية الخارجية.

من هنا، ما زلت أطمح إلى أن يتعامل المجتمع الدولي مع الواقع اللبناني بمنهجية جديدة، تتجاوز الاكتفاء بالضغط على القوى التقليدية، وتتوجّه إلى تمكين الفئات المجتمعية الصاعدة، وفي طليعتها الشباب والمبادرات المدنية المستقلة. فلبنان يختزن طاقات بشرية هائلة تبحث فقط عن فرصة، عن بيئة نظيفة تمكّنها من العمل والإنتاج. ولم يعد مقبولًا، بعد كل ما جرى، أن تُمنح المساعدات المالية من دون رقابة شفافة. لذا، فإن إشراك المؤسسات الدولية المحايدة في الإشراف على توزيع الدعم وتمويل البرامج بات ضرورة ملحّة، تضمن أن تصل الأموال إلى مستحقّيها لا إلى جيوب شبكات النفوذ ذاتها التي ساهمت في الخراب.

التحدي إذاً لا يكمن فقط في “من يحكم”، بل في “كيف نُحكم”. إذ لا جدوى من تداول الأسماء والحقائب إذا كانت القواعد التي تدير الحياة السياسية غير قادرة على إنتاج قرارات مستقلة وفاعلة. وليس مستغربًا أن تتراجع ثقة المجتمع الدولي بقدرة لبنان على التعافي، ما دامت الإصلاحات الجوهرية، من القضاء إلى الإدارة العامة، لا تزال رهينة التوازنات الضيقة.

ولعلّ ما يُعزز المأزق، أن غالبية الأطراف السياسية، بالرغم من اختلاف مواقفها، تتفق ضمناً على إبقاء الأمور تحت السيطرة من خلال تسويات موضعية. لكن هذا النوع من “الاستقرار السلبي” لم يعد يُقنع الداخل ولا الخارج. كما أن الرهان على الوقت لإعادة التوازن، لم يعد يكفي حين يكون النزيف مستمرًا، والمؤسسات تتآكل، وثقة المواطن تتراجع.

ومع ذلك، لا تزال هناك فرصة. التحولات الإقليمية فتحت أبوابًا كان يُعتقد أنها مغلقة، ويمكن للبنان أن يكون شريكًا فيها إذا ما قرر التحرّك. فالمجتمع العربي الجديد يقوم على الانفتاح، والكفاءة، وتجاوز الأيديولوجيات الخانقة، وهو ما يتطلب في لبنان أولاً إرادة صريحة للخروج من دوامة الطائفية السياسية، ومن ثمّ الشروع في حوار داخلي حقيقي حول طبيعة الدولة التي نريد.

إنَّ الإصلاح في لبنان لم يعد ترفًا أو شعارًا انتخابيًا، بل ضرورة وجودية. والتغيير ليس مرهونًا بالقطيعة الجذرية، بل بتدرج عقلاني يقوده وعيٌ وطنيٌّ صادق. لم تعد الشعوب تُقاس بعدد ولاءاتها، بل بقدرتها على بناء دول قابلة للحياة. ولبنان، بتاريخ نضاله وثقافة أبنائه، لا يستحق أقل من ذلك.