السويداء: رمز مستمر لفصول المأساة المتكررة

السويداء: رمز مستمر لفصول المأساة المتكررة

تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أنَّ المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت، ليحفظ وجوده فيما يشبه الانكماش الوقائي. وإن تسرب الضوء إلى داخله تدريجيًا، فلم يكن ذلك إلا بجهد أبنائه الذين انشقوا عن العرضي لا عن الجذور الجامعة، ومنهم أولئك الذين التقيتهم على امتداد مسار محطاتي الحياتية في سوريا والشتات، فكانوا من أوفى الأصدقاء، وأنبلهم، وأوفاهم، وأكرمهم، وأصدقهم، وقد كان الحزب الشيوعي السوري الذي يُراد وأده، ولست إلا مع جوانبه الأصيلة المضيئة، لا الجانحة، جسرًا إلى تلك المعرفة، إذ لم يكن جسدًا أيديولوجيًا بقدر ما كان بابًا إلى وجدان أرحب.

من هنا، فإنَّ موقفي حيال ما يجري في السويداء لا ينبع من موروث خارجي، بل من تماس مباشر مع أولئك الذين لا ينظرون إلى أنفسهم كضحايا، بل ككائنات سورية أصيلة تسكنها الوطنية لا الطائفة، وتضمر قلقًا شفافًا على الإنسان لا على مجرد مجتمع أو أفراد بيئة. إنهم من أقل الفئات تلبّسًا بالاصطفاف الروحي العدائي، بل من أكثرها انتماءً إلى فكرة الكرامة الفردية، وهي التي تهتز اليوم تحت وقع العدوان.

إذ يتكرر المشهد ذاته الذي رأيناه في عفرين، وتل أبيض، وسري كانيي “رأس العين”، بل على غرار ما شهده ولما يزل يشهده الساحل، كأنَّ الترسيمة واحدة والعدسة واحدة، والمتفرج هو ذاته، والمخرج لا يبدّل أدواته. حيث التجييش على الدروز لم يبدأ من اختطاف بائع خضار، بل سبقته تهديدات واضحة وتحريضات مباشرة، بلغت ذروتها “حتى ما قبل” حوادث جرمانا وصحنايا، منذ أن ترافقت مع دعوات لاقتلاع كل من لا يرضخ لنموذج طائفي محدد في كامل الشروط، سواء أكان كرديًا أو علويًا أو مسيحيًا أو درزيًا، وحتى عربيًا غدًا، وهو ما لم يتم الحديث في مدى أخطاره بالمستوى المطلوب بعد. وهكذا بدا أنَّ ساعة الجبل قد دقّت، وأنَّ السيناريو جُهّز بدقة كي يتم إنزاله على الرقعة السورية كلها، بلا مواربة.

إنما ما يُخشى منه ليس فقط الفعل، بل التواطؤ. حيث تظهر أجهزة النظام كمراقب لا يميل إلى الإنصاف، بل ينزلق إلى شبهة التحيّز، بل إلى ممارسة فعل القهر الصريح. وما شريط الفيديو الذي جرى فيه حلق شارب شيخ مسنّ لم يكن إلا تكرارًا لمشهدية الذل التي مارستها تنظيمات مثل “داعش”، من قبل، لا سيما في إعداماتها الميدانية التي كانت تسعى إلى الترويع لا إلى الانتصار. من هنا، فإنَّ قراءة ما يحدث لا يمكن فصلها عن أدوار متشابكة، تبدأ – تحديدًا – من أجهزة السلطة، ولا تنتهي عند السماسرة المحليين الذين يبرعون في إشعال العصب وتفتيت النسيج.

أمَّا ما يُحكى عن “سرقات”، و”إحراق للمنازل”، و”انتهاك للحرمات”، فهو جزء من مخطط أوسع يحاكي نموذج المغول. فالمسألة ليست ردّ فعل على حادثة، بل مشروع منظم للاستباحة، يسعى إلى خلق صراع داخلي يلتهم الداخل بأنيابه، بينما يصفق الخارج بيديه، ويجمع الغنائم بالهدوء نفسه الذي يُراقب فيه سقوط البيوت.

إنَّما ما يزيد المشهد قتامة هو توازي الهجوم على الدروز مع حملة تهديدات ممنهجة تطال الكرد، حيث باتت المنصات الاجتماعية – بموافقة غير معلنة من دوائر رسميَّة – ساحة لتلك التهديدات. يذهب بعض مروّجيها إلى الجهر بأنَّ الكرد هم الهدف القادم، باعتبارهم “الخطر الأكبر”، وهكذا يكتمل عقد الكراهية لدى رعاة المخطط وأدواته القميئة، تحت دعاوى وشعارات براقة ملفقة، باسم الوطنية، لا سيما من كانوا في سلوكهم ورؤاهم ضد هكذا رؤى وثقافة، حتى الأمس القريب. إذ ليس من قبيل المصادفة أن يُشتم الدروز وتُهان كراماتهم، فيما تُطلق الشتائم نفسها على الكرد، حتى في إطار الفيديو الواحد، ويُعاد استحضار خطاب إبادتهم، كما لو أنَّ الزمن أُعيد إلى الخلف، وكل الأقنعة قد سقطت.

تأسيسًا على ذلك، فإنَّ العيون يجب ألا تُغمض أمام ما يُحاك، لأنَّ ما يُمارس في السويداء اليوم ليس “فتنة عابرة”، بل امتداد مباشر لسياسة تفكيك وتكريس واقع البلد على أساس مناطقي، طائفي، وعرقي، بعكس مزاعم من هم وراء هذا المخطط من العميان الذين يترجمون ما يُراد منهم وما تسوّل به أنفسهم وثقافتهم من غرائز عدوانية مشبعة بعفونة طحلبية ملتبسة الثقافة. وها هو الجبل يُمتحن، تمامًا كما امتحنت كوباني وعفرين من قبل، وتمامًا كما عاين الساحل لحظة الغرق في لغة الدم.

إنَّ الوقوف إلى جانب المكوّن الدرزي اليوم ليس تضامنًا مع طائفة، بل هو انحياز نبيل – بغض النظر عن حقيقة أدوات من صميم المخطط من بين هؤلاء – انحياز إلى ما تبقّى من إمكانية للبقاء سوريًا، جامعًا، كما حلم به كل المخلصين للرابط الوطني. إذ لم تعد الحرب مؤجلة، بل بدأت بصمت ثم دوَّت، وكل من يظن أنه بعيد عنها، لم يقرأ جيدًا فصولها التي كُتبت بمداد أسود على جدران الخراب.

وإنَّما يبقى السؤال: هل يستفيق السوريون، قبل أن يصبحوا – كلهم – من ضحايا السيناريو ذاته؟