صوت العقل العراقي: صراع الهوية والضياع ومكانة الشجاعة في الكشف والاعتراف

صوت العقل العراقي: صراع الهوية والضياع ومكانة الشجاعة في الكشف والاعتراف

الحق يبزغ بإثراء النقاش بكل موضوعية ودون تقديس، وقبول الرأي الآخر وإن كان الرأي مخالفًا وصادمًا بل وشاذًا؛ وكثيرة هي الآراء التي كانت في الماضي شاذة ومستنكرة بينما هي اليوم منتشرة بين الأوساط الاجتماعية والنخبوية ومقبولة؛ وليس بالسب وتكميم الأفواه والتخوين والإسكات، والإنجازات والابتكارات تأتي من الشكوك المعرفية ومخالفة المسلمات الاجتماعية ومناقشة النظريات العلمية، وليست من خلال الادعاءات باحتكار الحق والعلم والمعرفة، أو سيادة الفكر الدوغمائي المتخشب، والإذعان لرؤى الماضي وعدم الخروج عن المسلمات التاريخية.

نعم: إنَّ ولادة الحقيقة لا تأتي عبر التقديس الأعمى، ولا من خلال قمع الأصوات وتكميم الأفواه، بل تولد من النقاش الحر، وتزدهر في مناخات التنوع الفكري وتقبل الآراء تلك التي تبدو شاذة أو صادمة. فكم من فكرة كانت منبوذة بالأمس، وصارت اليوم مقبولة ومتداولة في الأوساط الثقافية والنخبوية!

وبناء على ما تقدم؛ لا بد لنا من الانفتاح على التاريخ والإذعان لحقائقه والتوقف بشأن بعض مروياته ورفض خزعبلاته وخرافاته وافتراءاته وأكاذيبه، وأن نتحلى بالشجاعة في مواجهة التاريخ، لا أن نقدّسه تقديس العميان، ولا أن نشوّهه لمجرد الهوى. كثيرٌ من روايات التاريخ تحتاج إلى تمحيص، وكثيرٌ من خرافاته تستوجب الرفض والمراجعة كما أسلفنا، فالعقل العراقي اليوم يواجه تحديًا وجوديًا، ليس فقط في مواجهة الماضي، بل في صياغة الحاضر وبناء المستقبل. وهذا لا يتم عبر اجترار روايات ماضوية مشوهة، أو التمسك بخرافات موروثة، بل بمساءلة التاريخ، وتنقيته من الأكاذيب والخزعبلات التي لطالما أعاقت نهضتنا.

والنهوض الحقيقي يبدأ من العلم والمعرفة واتباع الحقيقة ونبذ الأوهام والأكاذيب، ومن محاربة الجهل والتخلف بكافة أشكاله وصوره، ومن الاعتراف بالحقائق المؤلمة دون مواربة؛ فلا إصلاح من دون مصالحة، ولا مصالحة من دون مصارحة، ولا مصارحة من دون صدق وشجاعة؛ والتصالح مع الذات العراقية والذي يتطلب الاعتراف بالذنب، والإقرار بالخطأ والحقيقة مهما كانت مرة، وتحمّل مسؤولية ما جرى ويجري؛ فالحقيقة، مهما كانت مُرّة، هي السبيل الوحيد لولادة عراق جديد؛ أي أن يتصالح العراقي مع الآخر العراقي من خلال معرفته والاستماع إليه وتقبله ومساعدته ومحبته؛ إذ إن حب العراقي ينبع من حب العراق؛ فالإصلاح الحقيقي لا يقوم على المجاملة، بل على رؤية جذرية شجاعة تقوم على الهدم ثم البناء: هدم الجهل، والطائفية، والعنصرية، والفئوية، والعشائرية، والتبعية… إلخ؛ ثم بناء مجتمع قائم على المواطنة والهوية الوطنية المتمثلة بإحياء مفهوم الأمة العراقية، والعلم، والمساواة، والحرية، والعدالة الاجتماعية… إلخ؛ ولن يتحقق هذا إلا عبر مشروع وطني يتجاوز الانتماءات الضيقة، ويستند إلى مبادئ المواطنة والهوية الوطنية الجامعة؛ وهدم البنى الطائفية والعشائرية والعنصرية، ثم بإرساء أسس دولة مدنية عادلة، تقوم على الحرية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية الحقيقية التي لا تختزل في صندوق اقتراع بل تُترجم إلى مؤسسات فاعلة وحكم رشيد كما أسلفنا.

إنَّ بعث العراق العظيم مهمة جليلة كبرى تتطلب يقظة الضمير الجمعي، وصدق النوايا، وشجاعة المكاشفة، وسبيلُها الوحيدُ هو المكاشفةُ الشجاعةُ مع الذاتِ ومع الآخرِ، والاعترافُ بثِقَلِ الماضي دونَ مواربةٍ أو تبريرٍ؛ فالتاريخ مرآة لا ينبغي تزييفها، والبِناءُ على أُسُسِ المواطنةِ والإخاءِ لا على أوهامِ الانتماءاتِ الضيّقةِ والهوياتِ الممزقةِ والهجينة والعابرة للحدود، والكتابةُ الملتزمةُ هنا ليست ترفًا فكريًا، بل هي فعلُ مقاومةٍ ضدَّ النسيانِ المُتعمّدِ، والتزييفِ المُمنهجِ، والانحدارِ الأخلاقيِّ والوطنيِّ، إذ لا بد من طرحِ البديلِ الحضاريِّ المتمثلِ في البناءِ والنهوضِ والتطويرِ والتنميةِ، وترسيخِ قيمِ المعرفةِ العلميةِ (كإحياءِ دورِ الجامعاتِ ومراكزِ الأبحاثِ)، والمواطنةِ المتساويةِ (التي تُعَامِلُ المواطنَ على أساسِ هويتِهِ الوطنيةِ لا انتمائِهِ الفرعيِّ)، والعدالةِ الاجتماعيةِ (بتوزيعِ الثروةِ والفرصِ بعدلٍ)، والحريةِ المسؤولةِ (حريةُ التعبيرِ مع احترامِ الرأيِ الآخرِ)، والديمقراطيةِ الأصيلةِ (التي تتجاوزُ صناديقَ الاقتراعِ إلى مؤسساتٍ قويةٍ وحكمِ قانونٍ).

يجب علينا أن نميز بين الأسطورة والتاريخ، بين الحقيقة والكذبة الموروثة، وأن نرفض تسويغ الأكاذيب بدعوى “حماية الرموز والمقدسات” أو “صيانة التراث والتقاليد والعادات”، فمن لا يصحح التاريخ، يبقي الجرح نازفًا، ويمنع التعافي. ومن لا يعترف بخطاياه، لا يمكنه بناء وطن، لذلك فالمصالحة الوطنية الحقيقية لا تأتي إلا بعد مرحلتين أساسيتين: أولًا، المصارحة والمكاشفة؛ وثانيًا، الإقرار بالخطأ والاعتذار والتكفير عنه، كما أسلفنا؛ ثم يُبنى على ذلك مشروع وطني جامع يستند إلى دراسات رصينة، وشهادات تاريخية موثقة، بعيدًا عن التزوير والديماغوجيا.

ينبغي لنا أن نعيد قراءة تاريخنا بتجرّد، لا بعينٍ حزبية أو طائفية أو سياسية أو قومية… إلخ؛ علينا أن نُفرّق بين الخرافة والحقيقة، بين الأسطورة والتأريخ، بين الكذبة الموروثة، والوقائع الموثقة؛ ولا يمكن أن نتصالح مع الآخر ما لم نتصالح أولًا مع ذواتنا؛ ولا يتحقق هذا الأمر ما لم نعرف تاريخنا الواقعي ونتعرف على هويتنا الحقيقية، كما أسلفنا؛ وإن ما يفتك بالهوية العراقية اليوم ليس فقط التشظي والانقسام، بل أيضًا الدونية الذاتية التي تسكن بعض أبناء هذا الوطن، حين يجلدون أنفسهم ويحتقرون تاريخهم، ويكفرون بانتمائهم؛ هذا الداء لا يمكن علاجه إلا بالتعليم والمعرفة، وتفكيك ما زرعه الطغاة فضلًا عن قوى الاحتلال الأجنبية والاستكبار الاستعمارية من شعور بالنقص والضعف والاغتراب والتبعية.

لقد حيّرتني منذ الصبا تلك العبارات السوداوية التي أسمعها من بعض العراقيين أنفسهم، وهم ينتقصون من وطنهم ويجلدون ذواتهم ويسيئون إلى هويتهم الوطنية؛ وكانتِ الحيرةُ تعتريني كلَّما سمعتُ عراقيًّا يَنْطِقُ بكلماتٍ سامَّةٍ تُذَمُّ العراقَ وأهلَهُ؛ وتساءلتُ بمرارةٍ: لماذا يستصغرُ العراقيونَ أنفسَهم؟ ولماذا لا يَرَوْنَ عَظَمةَ بلدِهم وحضارتِهِ التِّي أَثْرَتِ الإنسانيةَ جمعاء؟ ولماذا يجلد العراقي نفسه؟ لماذا يتحدث عن بلده بلغة الغريب؟ ومن زرع فينا هذا الشعور بالدونية والاغتراب والضياع وانعدام الهوية؟ وما الذي يجعل العراقي يجلد ذاته ويحتقر قومه؟!

لِمَ هذا الداء الذاتي المتفشي؟ أهو الجهل أم القهر أم غسيل الأدمغة عبر أجيال من الطغيان والاحتلال والاستبداد، أم تأثير الفئة الهجينة والخط المنكوس…؟!

نحن نكتب لا من أجل الجدل العقيم، بل من أجل العراق…؛ نكتب لأن العراق يستحق الحقيقة، لا الوهم؛ ويستحق مشروعًا وطنيًا جامعًا لا يصاغ في مختبرات الأحقاد الدينية والقومية والطائفية والعنصرية، بل في فضاء العقل الجمعي، على أساس دراسات رصينة وشهادات موثقة.

لا نريد تاريخًا يُعاد إنتاجه في مختبرات الضغائن والكراهية والتعصب والانغلاق، ولا حاضرًا يُصاغ ببلاغة المستفيدين من الخراب والدمار؛ نريد عراقًا يصالح أبناءه أولًا، ويعيد تعريف ذاته كأمة، لا كمجاميع مقطعة الأوصال…؛ والمصالحة الحقيقية تبدأ بـالمصارحة، تليها الاعتراف، ثم الاعتذار، وليس العكس، كما أسلفنا.

ختامًا، إنَّ نجاتنا لا تكمن في الخلاص الفردي، ولا في الولاء لأشخاص أو شعارات أو أحزاب أو جماعات، بل في إعادة تعريف الذات العراقية كأمة موحدة، بناء مشروع وطني حقيقي؛ يتجاوز الماضي المقيت، ويستلهم من الحضارة العراقية القديمة روحها، ومن النكبات المعاصرة دروسها، ومن شعوب العالم المتقدم نماذجها الحضارية والمدنية.

نعم لا يمكن للمجتمع العراقي أن ينهض دون مواجهة ذاته، ودون التصالح مع تاريخه الحقيقي، ودون إعادة بناء منظومة القيم على أسس الوطنية والعقلانية والانتماء الأصيل.