بلاد الشام تعود إلى الحوار… لا إلى الحدود الجغرافية

إيلاف من القدس: في أروقة السياسة وحديث المبعوثين، تعود “بلاد الشام” لتحتل مركز النقاش، لا كأطلال جغرافية فحسب، بل كتصور سياسي يعيد رسم الشرق الأوسط بمفردات قديمة وأبعاد جديدة.
التصريح الأخير للمبعوث الأميركي توماس براك، ذي الأصول اللبنانية، حول مستقبل لبنان واحتمالية عودته إلى إطار “سوريا الكبرى”، فجّر موجة من التأويلات. فقد ربط براك بين تفكك القرار السياسي في لبنان وبقاء سلاح حزب الله خارج سيطرة الدولة، وبين فكرة الانضمام إلى كيان إقليمي أوسع يُنهي حالة العجز.
لكن هذا الطرح ليس جديدًا؛ إنه استدعاء لحلمٍ راود حافظ الأسد وبعض أركان حكمه، حلم رُسمت له خرائط، ونسجت حوله تحالفات، وزُرعت له نخب حزبية موالية في لبنان، الأردن، فلسطين والعراق، تحاكي مشروع وحدة لم تكتمل.
فما هي بلاد الشام؟ وأين تبدأ وتنتهي حدودها؟ وكيف تشكّلت وانهارت تصورات الوحدة؟ وهل تعود اليوم في ثوبٍ جيوسياسي مختلف؟
بلاد تُروى بالرماد والنار
تقع بلاد الشام في قلب المشرق العربي، وتضم حاليًا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، مع امتدادات تاريخية نحو جنوب تركيا وشمال العراق. إنها مساحة تبلغ نحو 320 ألف كيلومتر مربع، تشكل عقدة جغرافية تربط البحر الأبيض المتوسط بالهلال الخصيب، ومنه إلى الجزيرة العربية.
سُميت “الشام” لوقوعها شمال الجزيرة، لكن الاسم في جذره التاريخي أقدم: أرض كنعان، آرام، أو بلاد الفينيقيين. حملت في طياتها هويات متداخلة، وأديانًا تعايشت ثم تصارعت، وحضاراتٍ تنازعتها الإمبراطوريات الكبرى.
مدن الصمت والحرف والدم
شهدت المنطقة ميلاد حضارات كبرى. الكنعانيون، أول من أسس مدنًا كأريحا وصور وصيدا، ونشروا ثقافة التجارة والزراعة والفخار. ومنهم تفرّع الفينيقيون، سادة البحر، ورواد الأبجدية التي شكلت أساس الكتابة الغربية.
في الداخل، بسط الآراميون نفوذهم منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وجعلوا من دمشق مركزًا حضاريًا، ناشرين لغتهم التي أصبحت لسان التجارة والدين في المنطقة لقرون، حتى في زمن السيد المسيح.
الحثيون والعموريون تركوا أثرهم في شمال الشام ووسطها، قبل أن تتنازعها الفراعنة والمصريون، فالآشوريون والبابليون، فالإمبراطورية الفارسية، ثم الإسكندر المقدوني وورثته السلوقيين. لم تعرف الشام استقرارًا تحت يد واحدة، لكنها كانت دومًا درة مطلوبة في تاج كل إمبراطورية.
عندما تنصّبت دمشق عاصمة للعالم
تغير كل شيء مع الفتح الإسلامي. لم تعد الشام مجرد ولاية، بل أصبحت القلب النابض للخلافة الأموية، حين اختار معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمةً له عام 661م. لم يحدث أن وُحدت بلاد الشام إداريًا وسياسيًا بهذا الشكل إلا خلال هذا العهد.
وعلى مدى تسعين عامًا، كانت دمشق مركز القرار، والعاصمة التي أشرقت منها الدولة الإسلامية شرقًا حتى نهر السند، وغربًا إلى الأندلس.
لكن بزوال الدولة الأموية، عادت بلاد الشام إلى حالتها المألوفة: فسيفساء من الإمارات والمناطق المتنازعة. مرت عليها الدولة العباسية، ثم الزنكيون والأيوبيون، فالمماليك، حتى دخلها العثمانيون عام 1516م، وقسموها إلى ولايات كدمشق، بيروت، حلب، القدس.
الخرائط تُرسم بالحبر والدم
انتهت الهيمنة العثمانية مع الحرب العالمية الأولى، لكن الثمن كان فادحًا. في اتفاقية سايكس–بيكو 1916، تقاسم البريطانيون والفرنسيون إرث الشام. تقرر إنشاء دول منفصلة تخضع للانتداب: سوريا ولبنان تحت فرنسا، فلسطين والأردن تحت بريطانيا.
محاولة الملك فيصل الأول لإحياء “سوريا الكبرى” بين 1918–1920 باءت بالفشل بعد أن طردته القوات الفرنسية من دمشق. ومعها، دفنت أول وآخر محاولة حديثة لتوحيد الشام تحت سلطة محلية مستقلة.
حضارة بلا مظلة
رغم التجزئة، ظلت الروابط الثقافية والحضارية قائمة. تنقلت العائلات، وتداخلت الأسواق، وتوحدت اللهجات. المسيحية، التي وُلدت في الشام، حافظت على تنوعها الطقسي في أنطاكية والقدس ودمشق.
في المقابل، تشكلت الفسيفساء الإسلامية من أغلبية سنية واسعة، إلى جانب علويين ودروز وشيعة. كما عاش اليهود في مدن كدمشق وحلب حتى منتصف القرن العشرين. هذه التعددية أنتجت فسيفساء فريدة، لكنها كثيرًا ما تحوّلت إلى وقود للنزاعات.
من بعلبك إلى عمان… طيف اسمه “سوريا الكبرى”
رغم انتهاء مشروع سوريا الكبرى سياسيًا، ظلت الفكرة تعيش في الشعارات والنصوص الحزبية. حاول حزب البعث السوري تسويقها أيديولوجيًا، وإن بلباس قومي، بينما ظل حلم الوحدة حبيس الخطابات الرسمية.
في لبنان، خشي كثيرون من هذه الأطروحات التي بدت أحيانًا كغطاء للهيمنة. وفي الأردن، كان هناك حذر من تغوّل سوريا في ملفات اللاجئين والمياه. أما في فلسطين، فبقيت العلاقة مع دمشق محكومة بثنائية الدعم والمصلحة.
طوال العقود، لم يتجاوز المشروع عتبة الخطاب، إلى أن جاء تصريح توماس براك، فأنعش النقاش مجددًا، لكن في ظل واقع إقليمي مغاير.
حين يعيد الجغرافيا إنتاج السياسة
تشير التصريحات الغربية الجديدة إلى أن فكرة الشام لم تمت، بل تعود كأداة تفكير في مرحلة ما بعد الاضطراب الإقليمي. لكنها لا تعني العودة إلى وحدة سياسية، بل إلى تصورات أمنية واقتصادية، قد تعيد تنظيم المنطقة ضمن تحالفات مرنة عابرة للحدود.
ورغم أن فكرة “سوريا الكبرى” طُرحت مجددًا من قبل بعض الأصوات الدبلوماسية، فإن التقرير لا يعكس أي تبنٍ لهذا التصوّر. إنها عودة إلى أرشيف التصوّرات لا إلى مشاريع التنفيذ.