‏الجسد الفكري… مُزخرف بالكلمات

‏الجسد الفكري… مُزخرف بالكلمات

‏مع ارتفاع وتيرة الأحداث السياسية،
‏ينسحب الناس من ضجيج الترفيه اليومي،
‏يعتزلون مشاهير السناب، ويتجاهلون ذواتِ المؤخرات الثقافية،
‏ويعودون إلى الشاشات… لا ليُسلّوا عقولهم، بل ليُسكّنوا قلقهم.
‏في تلك اللحظات، لا ينشد الجمهور إجاباتٍ بقدر ما يبحث عن وجوهٍ تتقن إيهامه بأنّ الأجوبةَ بحوزتها.
‏وهكذا تمضي إحدى الليالي الرمادية،
‏حين يُقرّر المشاهد أن يعيد وصل ما انقطع،
‏ويختار إحدى القنوات الإخبارية العربية ليُشاهد العالم وهو يُعاد تشكيله بالكلمات من جديد.
‏لا شيء مفاجئ في الاستقبال.
‏كلّ شيء يبدو مألوفًا على نحوٍ مملّ:
‏إضاءةٌ مكثّفة تلمع فوق الاستوديو، كأنها تسعى لإضاءة المعنى… لكنها تنير الفراغ.
‏الشريط الأحمر الزاحف،
‏والعبارات العاجلة التي تقول كلّ شيء، وتكرّر ما قيل، كأنها تريدك أن تحفظ لا أن تفهم،
‏وأن تُصغي لا لتكتشف جديدًا، بل لتردّد ما قيل وكأنه كُشف لتوّه.
‏ورغم هذا التكرار المُرهِق، لا يزال في المشهد ما يدفع الناس للجلوس،
‏ربما لأنهم لا يملكون خيارًا آخر سوى المتابعة.
‏تدخل الكاميرا ببطء، كما لو أنها تنزلق داخل مسرحٍ فارغ قبل العرض، حين تهمس الأضواء وتتهيّأ المقاعد للصمت القادم.
‏وفي المنتصف، يظهر المذيع: أنيقُ الهندام، جامدُ الملامح، مفرطُ الترتيب إلى حدٍّ يوحي بأن شخصيته صيغت في إعلان،
‏يشبه علبةَ شوكولاتةٍ فاخرةٍ مغلّفةٍ بعناية… جميلةٍ من الخارج، بلا ضمانٍ لما في الداخل.
‏يشدّ قامته فجأة، كأن سوطًا خفيًّا مرّ على ظهره،
‏ثم يبتلع ابتسامته المعتادة، تلك التي يجترّها في مقدّمة كلّ ساعة، كأنها بندٌ إلزاميٌ في جدول البث،
‏ويرفع عينيه نحو الكاميرا بنبرةٍ مشبعة بالوقار…
‏وقارٌ يشبه الهيبة المرتجلة على وجه خطيب الجمعة، في اللحظة التي يهمّ فيها بقول: “إن الحمد لله”.
‏ثم يعلن:
‏”معنا الليلة الأستاذ الدكتور، المحلل السياسي ومدير مركز الدراسات الإقليمية، أحدُ من يعرف دهاليز القرار، ويتقن قراءة المشهد من الداخل.”
‏وهنا يُطلّ الضيف على الشاشة،
‏كأنّ الضوء استحضره من خلف الكواليس، بلا صريرِ بابٍ ولا وقعِ خُطى.
‏يستقرّ في قلب الكادر بهدوءٍ مدرَّب، كمن اعتاد الوقوفَ أمام المرايا أكثر من الوقوف أمام الأسئلة.
‏يلتقط نَفَسًا قصيرًا، أشبه بتنحنحةٍ محسوبة،
‏كأنّ بين حنجرته وشفتيه خريطةً لا تُفصح إلا في اللحظة المرسومة.
‏وما إن يستوي المشهد، حتى تنساب المقابلة كستارةٍ تُسحَب بصمتٍ فوق خشبةٍ تنتظر الكلام.
‏المذيع، وقد انخفض صوته كما تنخفض الإضاءة في بداية العرض، يفتح الجلسة بسؤالٍ يشبه المفتاح:
‏”دكتور، كيف نقرأ هذا التحوّل الأخير؟ وما قراءتكم لهذه المرحلة الحساسة؟”
‏حينها، تكون بداية إجابته هي الصمت ذاته.
‏صمتٌ يشبه السكون الذي يسبق دقّ جرس الكنيسة، لحظة تأهّب الأرواح للصلاة.
‏يشبك الضيف أصابعه كما يفعل الراهب قبيل ترنيمته، لا بحثًا عن إجابة… بل ليُمليها.
‏ثم يبدأ الحديث، بصوتٍ رخيمٍ واثق،
‏من ذلك النوع الذي لا يهمّ ما يُقال فيه، بقدر ما يهمّ كيف يُقال:
‏”نحن أمام مفترقٍ جيواستراتيجي، تتشابك فيه الفواعل التقليدية والناشئة، في مشهدٍ يُعاد فيه رسمُ موازين القوى، بعيدًا عن الأنماط الصلبة للمواجهة.”
‏وتتساقط كلماته كالمطر على زجاجٍ مغلق؛
‏تُحدِث صوتًا خفيفًا، لكنها لا تُبلّل شيئًا.
‏لا خريطةَ تُعرَض،
‏ولا رقمًا يُذكَر،
‏ولا جهةً تُسمّى.
‏فقط ألفاظٌ تسبح في الهواء،
‏كأنها تبحث عن معنى… ولا تجده.
‏لكن ما يفعله هذا النوع من المحللين ليس كشفَ الحقيقة،
‏بل إتقانُ الوقوف أمامها، والتمثيلُ عليها.
‏فهو لا يقدّم حقيقةً دينية يُؤمن بها،
‏ولا حقيقةً علمية تُقاس وتُختبَر،
‏بل يتحرّك في مساحةٍ ثالثة، رمادية، تُسمّى “الحقيقة الشعبية” —
‏تلك التي تُصاغ من القلق الجماعي، ومن إحساسٍ مشترك بأنّ هناك شيئًا كبيرًا في الأفق،
‏دون أن يعرف أحدٌ متى، أو كيف، أو لماذا.
‏وهو لا يستمدّ رؤيته من وثائق، أو خرائط، أو أرقام،
‏بل من نَفَس الشارع الرقمي، من تعليقات العوام، من الهمس العابر في تغريدة،
‏أو من نغمةٍ تصدّرت الترند.
‏يمدّ يده إلى هذه الشذرات، ويعجنها بالكلمات، ثم يصوغ منها بيانًا منفوخًا، يبدو كأنه رؤيةٌ متكاملة…
‏رغم أنه لا يعدو كونه صدى لما يُقال.
‏إنه لا يُحلّل ما يجري، بل يُحاكي ما يشعر به الناس،
‏ثم يقدّمه بلغةٍ مرتفعة، فيها من الغموض ما يكفي ليبدو عميقًا،
‏ومن الثقة ما يكفي ليبدو خبيرًا،
‏ومن الفراغ ما يكفي ليبقى فوق المساءلة.
‏وهكذا، لا أحد يسأله “ماذا تقصد؟”،
‏لأنّ العبارة، مهما كانت فارغة، قيلت بثقة،
‏والثقة – في ثقافتنا – تكفي وحدها لتغني عن البرهان.
‏وحين تُطفأ الأضواء، ويغادر الضيفُ محرابَ الاستوديو كما دخل،
‏يُغلق المشاهدُ جهازه بهدوء، كما يُغلق كتابًا لم يفهمه، لكنه يشعر أن فيه شيئًا يستحق الاحترام.
‏ثم يسأل نفسه، بصوتٍ خافت:
‏”هل فهمت شيئًا؟”
‏يصمت للحظة، ثم يهمس:
‏”ربما لا… لكن على الأقل، بدا الأمر… مهمًّا.”
‏وهنا، لا تنكشف الحقيقة كما ظنّ المشاهد،
‏بل يتبدّى له — دون أن يدرك — أنه قضى نصف ساعة يُحدّق في ملامح رجلٍ يجيد الإنصات لصوته،
‏ويرتّب جُمَله كما تُرتّب الزهور في جنازة.
‏لا ليُقنع، ولا ليشرح، بل ليبدو حيًّا.
‏في تلك اللحظة…
‏لا يبقى أمامه سوى أن يلعن نفسه بصمت:
‏”لقد قضيت وقتًا طويلًا في حضرة جثةٍ فكرية… مُزينة بالكلام”.