من غزة إلى طهران والعودة

من غزة إلى طهران والعودة

قبل أن تظهر حركة الأمهات السبع ظهرت حركة الأمهات الأربع عام 1982 أثناء حرب الاحتلال على لبنان وتعاظم قتلى الجيش على يد حزب الله والمقاومة هناك، مما أدى إلى تعاظم الضغط الداخلي على حكومة الاحتلال للهروب من هناك بأقل الخسائر. وبعد أن تمكن مقاتلو القسام من إنجاز ضربة موجعة لجيش الاحتلال في كمين السرية التي قُتل جميع أفرادها وقائدها، وبعد أن تمكنت سرايا القدس من قنص بعض الجنود وتفجير حقل ألغام بعديد الآليات، منحت المقاومة ورقة أقوى حتى من ورقة الأسرى الذين لا زالوا بأنفاقها بعد 21 شهراً دون أن يتمكن من يستعرض قوته على العالم من الوصول إليهم.

كانت غزة حاضرة في طهران أثناء العدوان عليها، فصمدت طهران وانتصرَت على الأعداء وعلى ذاتها وقدّمت نموذج غزة بأبهى صورها وبما يساوي حجم طهران وقوة وصلابة البلد والشعب هناك، وكررت مرة أخرى السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن هذه المرة والعدو هو المهاجم والبادي، أي أنه بكامل استعداده، ولذا لم تكن هناك مفاجآت ولا فشل استخباري ولا إهمال بشري، بل كانت هزيمة نكراء بكل ما تعني الكلمة من معنى، فالعدو الذي اعتاد الضربة الخاطفة المميتة اكتشف أنَّ العالم لا ينتظره وأنَّ الزمن لا يتوقف لصالح أحد.

غزة التي ما زالت تهشم المشروع الصهيو–ناشستي (نازي فاشي) الأميركي بالملكية والمصلحة والقرار، ما زالت أيضاً تواصل صمودها وتواصل إلحاق الخسائر بأعدائها، وبدلاً من أن كانت تملك ورقة الأسرى الرابحة بات لديها من الأوراق ما لم يكن موجوداً أو ما لم يكن يقيناً، لكن الآن كل شيء تغير:

– اليمن لم يستطع أحد كسره وقد هزم أعتى قوى الأرض التي فرّت من الساحة مذعورة حتى دون اتفاق ودون شروط، بل وتركت قاتلها المأجور تحت نيران أبطال أنصار الله.

– حزب الله لم ينكسر وما زال ثابتاً، وما زالت الأصابع كلها على الزناد، ولا أحد يمكنه أن يدري أي خلايا نائمة ما زالت لدى حزب الله، وأين تغفو بعين واحدة والعين الأخرى بالانتظار.

– واليوم طهران أشرعت بعض بوابات النار، وجعلت الأصدقاء قبل الأعداء يعرفون أنَّ البوابات التي لم تُشرع أكثر اتساعاً وعمقاً من تلك التي فُتحت، بل وصار الكل يدرك أنَّ النووي القذر أشد فتكاً من تلك القنبلة الأنيقة.

– انطلق السؤال الأهم عن ماذا يعني وجود القواعد الأميركية في المنطقة، وما مصلحة شعوب المنطقة بها، ولصالح من تتربع على صدر بلادنا، ومن هم الذين يتعرضون للخطر، ناس البلد المغلوب على أمره أم بلد القاعدة المتعدية دون رغبة ولا ترحيب؟

– الورقة الأهم هي أن طهران جاءت إلى غزة هذه المرة بعد أن أظهرت المقاومة أنَّ صمت النار على طهران لا يعني صمت نار غزة على جند الاحتلال، وأنَّ قوة التدمير في تل أبيب من صواريخ طهران التي أجبرت الاحتلال على الهروب بمظلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستدفع ترامب مرة أخرى لأن يفتح مظلته لقاتله المأجور، ولكن هذه المرة ليهرب بمن تبقى من جنوده من غزة دون أن يحضر أسراه.

والسؤال الآن: كيف يمكن أن تُدار هذه العملية؟ وهل يمكن لقطر ومصر أن تقوما بنفس الدور الذي جرى في إيقاف الحرب على طهران دون أن تقدم طهران أي تنازل، وفقط تركت المعتدي يطفئ مشاعله التي أحرقته قبل غيره؟ ولدى قطر ومصر الكثير من الأوراق، فأيها يمكن أن تُستخدم مع ترامب ليعلن بعد عطلته الأسبوعية أو حتى قبل الذهاب إليها وقفاً للنار على غزة دون شروط أيضاً؟

النموذج الإيراني يحضر إلى غزة، وقد يمنح الاحتلال فرصاً عديدة لإطلاق الأكاذيب، وهو يجر أذيال خيبته ليخرج من أرض غزة دون أن يرفع رايات الاستسلام، بحجة القبول بأمر الحليف الوفي ترامب، فهو سيحمي جنوده من الموت، وجيشه من مواصلة الفشل من موقع إلى موقع، ويحمي ما تبقى من أسرى لم يقتلهم بنيرانه، ويسكت أصوات المعارضة وأمهات الجنود والأسرى قبل أن تتحرك حركة الأمهات السبع وتعلن عن وجودها.

الاحتلال سيعتبر من تجربته القاسية مع إيران، وسيجد بها فرصة للهروب من غزة، وقد يستعيض عن صفقة الهزيمة لجيشه وعصابته في غزة بصفقة داخلية، يعلن ترامب بموجبها وقف النار، ويعلنون العفو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فلا يدخل السجن، ولا يستسلم جيشه، ويذهب هو وقد اعتُبر رسمياً أنه سبب كل المقتلة والجريمة الأبشع على وجه الأرض، وسيحاول ترامب أن يحضر إلى غزة باسم الدولية، تماماً كما فعل الرئيس أيزنهاور من قبله بعد حرب 1956 على مصر العربية، وفشل فشلاً ذريعاً.

سيحاول ترامب أن ينقذ قاتله المأجور مرة أخرى، ويُخرجه ببعض ماء الوجه من غزة، فهل ينجح؟ وهل سيكتفي بذلك؟ أم أنه سيواصل كل الخبث والخديعة، وقد يكون بالقوة للسطو على غزة أرضاً وبحراً وغازاً ليجلس على بوابات الأهرام والكعبة، وكلاهما يقضان مضجعه لما لهما معاً من تأثير وقوة وثروة، والأمر هنا يبقى بيد دول المنطقة.

هل تخنع دول المنطقة وتُصدق كذب ترامب عن إنجازاته؟ أم تستثمر في صمود ودم الفلسطينيين والإيرانيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين وغيرهم؟ فإن هم صدقوا ترامب وصاروا جزءاً من لعبته، فلن تقوم لهم قائمة بعد اليوم، وإن هم استثمروا بالدم الزكي الذي أُريق في كل مكان، وصمود الأبطال الأسطوري، فلن تنحني هاماتهم بعد الآن إلا لله، والأمر بيدهم هم لا بيد أحد غيرهم.

على العرب والمسلمين أن يفحصوا اليوم مصادر قوتهم، فلا ضعفاء بينهم إن أرادوا، فلديهم أبطال سطّروا حكايات صمود وبطولة وانتصارات لن تُنسى، ولديهم جيوش لا زال لديها الكثير من صور البطولة، ولديهم تاريخ وقبل لغيرهم به، ولديهم إيمان لا يصل لمستواه أحد، ولديهم أموال يمكنهم شراء الجميع بها بالعلن كما مع ترامب، ومن خلف ستار كما مع نتنياهو وطواقمه، فهل يصنعون معاً سمفونية تتناغم لتحقيق الأهداف المشتركة؟ أم يواصلون دفن رؤوسهم بالرمل؟ ولكن ليس رمل غزة.