بعد التصعيد ووقف إطلاق النار… ما هي خطط إيران وإسرائيل ومكانة واشنطن في هذا السياق؟

بعد التصعيد ووقف إطلاق النار… ما هي خطط إيران وإسرائيل ومكانة واشنطن في هذا السياق؟

في مشهدٍ دراماتيكي تحوّل فجأةً من لهيب التصعيد إلى برودة الهدنة، يقف الشرق الأوسط اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. فبعد أسابيع من التوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، الذي كان ينذر بانفجار شامل، جاء إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وقف إطلاق النار ليلقي بظلاله على المنطقة، محوّلاً ساحة المواجهة إلى رقعة شطرنج سياسية معقدة.

لا تنخدعوا بالهدوء الذي يخيّم على المنطقة؛ فما يبدو مجرد تهدئة موقتة بين القوتين المتصارعتين، ما هو إلا غيض من فيض. خلف ستار وقف إطلاق النار، تتجلى استراتيجيات معقدة وحسابات دقيقة تتجاوز بكثير مجرد وقف الاشتباكات.

كل من طهران وتل أبيب ترسم خططها بعناية فائقة. تتقاطعان في لعبة معقدة تمزج بين الأبعاد العسكرية، السياسية والأمنية، تقف فيها واشنطن كصانع توازن هشّ، تسعى جاهدة للحفاظ على خيوط اللعبة من الانفلات. فهل هذه مجرد استراحة محارب، أم بداية لمرحلة جديدة من المواجهات المستمرة غير المباشرة؟

إيران: من الرمزية إلى الردع
شهدت المنطقة تحولاً لافتاً في استراتيجية إيران، فبعد سلسلة من الضربات الأميركية والإسرائيلية، جاء الرد الإيراني بقصف قاعدة العُديد الأميركية في قطر، حاملاً في طياته أكثر من مجرد رسالة. صحيح أنّ هذا القصف لم يؤدِّ إلى أضرار مادية كبيرة، لكنه حقق هدفه الأسمى، دون الحاجة إلى مواجهة شاملة ومفتوحة. وهذا يؤكد أن قواعد الاشتباك قد تغيّرت، وأن إيران باتت تتبنّى استراتيجية الردع المستمرّ، بعيداً عن الانفعال أو التصعيد غير المحسوب؛ ما يرسي معادلة جديدة في المنطقة، قوامها التوازن الدقيق بين إظهار القوة وتجنب الانزلاق إلى حرب واسعة النطاق.

محاور الصراع الثلاثة
بينما تترقب المنطقة بأسرها ما ستكشفه الأيام المقبلة من فصول هذا الصراع المستمر، تتضح ملامح استراتيجية إيران اليوم، التي يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:
1- الردع المتبادل المحدودتتبع طهران نهجاً دقيقاً في ردودها، باستخدام ضربات محسوبة تهدف إلى رفع كلفة أي هجمات مستقبلية ضدها. الهدف ليس شنّ حرب شاملة، بل إرسال رسالة واضحة بأن أي تصعيد لن يمر دون ثمن. تدرك إيران جيداً أن تجاوز خطوط معينة قد يمنح واشنطن وتل أبيب الشرعية للقيام برد كامل، وهو ما تسعى لتجنبه. هذه الاستراتيجية تعكس رغبة في خلق نوع من الردع المتبادل الذي يحدّ من قدرة الخصوم على التحرك بحرية.
2- التمسك بالأوراق الإقليميةبعدما سقط قناع الميليشيات كدرع ردعي، ستسعى إيران جاهدة لإعادة تفعيل أدواتها الإقليمية بذكاء أكبر، من “حزب الله” في لبنان إلى الميليشيات المختلفة في العراق وسوريا، إذ إنّ هذه الشبكات الإقليمية تمثل أوراق ضغط حاسمة لطهران. ومن خلالها ستعمل إيران على استعادة فعاليتها في تحقيق أهدافها، سواء كان ذلك من خلال الضغط على المصالح الأميركية والإسرائيلية، أو تعزيز نفوذها في المنطقة.
3- التفاوض للإبقاء على النظامتدرك طهران جيداً أن القوة العسكرية وحدها لا تصنع الانتصار، وأن الصواريخ ليست كافية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. والآن بعدما أظهرت قدرتها على البقاء رغم الضربات المتتالية وما حُكي عن تدمير مشروعها النووي، تعود إيران إلى طاولة المفاوضات ضعيفة والهدف واضح: التفاوض لبقاء النظام وإعادة هيكلة جيشها والحرس الثوري بعدما دمرت إسرائيل قيادة الجيشين.

إسرائيل: تثبيت معادلة السماء المفتوحة
بالنسبة إلى تل أبيب، تجاوزت الضربات الأخيرة، التي وصلت إلى قلب المنشآت النووية الإيرانية، كونها مجرد هجوم عسكري. كانت هذه العمليات بمثابة رسالة استراتيجية واضحة، بأن “إسرائيل باتت تسيطر فعلياً على السماء الإيرانية”، ما يثبت معادلة جديدة في المنطقة، مفادها أن المجال الجوي الإيراني لم يعد حصيناً، وأن إسرائيل قادرة على الوصول إلى أي هدف تراه ضرورياً لتحقيق أمنها القومي. إنها محاولة لفرض واقع ردع أحادي الجانب، يضع طهران أمام حتمية إعادة تقييم دفاعاتها الجوية وقدرتها على حماية منشآتها الحيوية. هذا التحرك يمثل تصعيداً نوعياً في الصراع، وقد يدفع إيران إلى البحث عن سبل جديدة لتعزيز قدراتها الدفاعية الجوية أو البحث عن حلفاء قادرين على توفير مظلة حماية.

أمّا استراتيجية إسرائيل فترتكز الآن على:
1- منع إعادة بناء المشروع النووي الإيراني: عبر مراقبة استخباراتية غير مسبوقة، وضربات مستقبلية محتملة لأي نشاط نووي يخرج عن السيطرة.
2- فرض معادلة ردع لا رجوع عنها: كل اختراق إيراني يقابله رد ساحق، بهدف تثبيت ميزان الردع الجديد الذي يضع إيران في موقع دفاعي.
3- تقليص نفوذ إيران الإقليمي: عبر تفكيك شبكاتها في سوريا والعراق ولبنان، بالتنسيق مع واشنطن أو بعمليات سرية مستقلة.

الولايات المتحدة: مهندس التوازنات بعد السلام القسري
بعد تردّده الأولي، وجد ترامب نفسه مضطراً للتدخل في الصراع بعد الضربات الإسرائيلية الفعّالة لقلب إيران. ومع ذلك، اختار إنهاء الأزمة بوقف إطلاق نار، في خطوة يبدو أنها تخدم مصالحه الانتخابية والدولية على حد سواء. إلى ذلك، تسير استراتيجية واشنطن الآن في مسارين متوازيين؛ الأول، سعي الولايات المتحدة لاحتواء إيران بدلاً من إسقاط نظامها. فالهدف ليس انهياراً مفاجئاً يخلق فراغاً إقليمياً، بل إبقاء نظام “قابل للضغط” يمكن التفاوض معه تحت التهديد، دون أن يكون قوياً بشكل مفرط. أمّا الثاني، فتقليص التورط المباشر عبر تعزيز التعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل والخليج، بدلاً من الانخراط العسكري المباشر، وتكثيف الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية.

ماذا بعد؟
لا يمثل وقف إطلاق النار الحالي نهاية الصراع بين إسرائيل وإيران، بل مرحلة جديدة ضمن “حرب باردة ساخنة” تشهدها المنطقة، تحت مراقبة أميركية دقيقة تسعى للحفاظ على توازن هشّ. كل طرف يعيد الآن تقييم استراتيجيته: إيران ستعمل بصمت على إعادة بناء قدراتها والبحث عن وسائل جديدة للمناورة بعيداً عن الأضواء. إسرائيل لن تتردد في توجيه ضربات استباقية مرة أخرى إذا استشعرت خطراً نووياً أو تهديداً أمنياً مباشراً. وواشنطن ستبقى في موقع المراقبة، ساعيةً لفرض “سقف” للتوتر يمنع أي تصعيد كبير قد يؤثر على الانتخابات المقبلة أو يزعزع الاستقرار الإقليمي الأوسع. فقد تكون الصواريخ قد صمتت موقتاً، لكن المعركة الحقيقية على النفوذ والردع، وبقاء الأنظمة ما زالت مستمرة.