الصراع بين جاسم الصحيّح وبريخت

كتب الشاعر السعودي جاسم الصحيّح مؤخراً نصّاً شعرياً يصوّر فظاعات الحروب ووجهها القبيح، قائلاً: «الحربُ حين تجيءُ/ تمحو الفرقَ ما بين السنابلِ والقنابلْ/ والحربُ حين تُسِيءُ/ تختطفُ البنفسجَ من حقول الورد/ تختطفُ الوضوءَ من الجداولْ/ والحربُ حين تُضِيءُ/ تُطفِئُ شعلةَ الأحلامِ في دَمِنا/ وأحلامَ المشاعلْ/ والحربُ حينَ تفيءُ/ تحتاجُ اعتذاراً باتِّساعِ (البحرِ)/ عَلَّ خطيئةَ (الحيتانِ) تغفرُها (السواحلْ)».
تُذكِّرنا هذه القصيدة بنصٍّ شعريٍّ كتبه الشاعر الألماني الشهير برتولت بريخت عام 1938، وحمل عنوان «غلطة الجنرال»، وجاء كردٍّ على صعود النازية وارتفاع نبرة الحرب التي كانت تمجّد القادة وتُخفي فظاعة الموت. يقول بريخت: «يا جنرال، دبابتك آلة جبارة/ تسحق الغابات وتدهس مئة رجل./ لكنّ فيها عيباً واحداً:/ تحتاج إلى سائق./ يا جنرال، قاذفتك سريعة مدمِّرة/ تسبق العاصفة وتحمل أطنان الموت./ لكنَّ فيها عيباً واحداً:/ تحتاج إلى ميكانيكي./ يا جنرال، الإنسان مفيدٌ جداً./ يمكنه الطيران، ويمكنه القتل./ لكنَّ فيه عيباً واحداً:/ إنه يُفكّر».
اشتهر بريخت بقصائده السياسية، وقصائده كانت تمثل إدانة صارخة للحروب، بلغة تبدو أحياناً ساخرة، وكان يهزأ من اندفاع زعماء أوروبا نحو الحروب وعدم العمل على تجنبها، وهو القائل: «أسوأ الأميين هو الأميّ السياسي»، لذلك يوجه نقده إليهم مباشرةً: «حين يتحدث الزعماء عن السلام/ يعرف العامّة أن الحرب قادمة…/ حين يلعن الزعماء الحرب/ يكون أمر التعبئة قد وُقع (…) على الحائط كتابةٌ بالطباشير: (هم يريدون الحرب)/ ومن كتبها سقط صريعاً».
في غياب المحاسبة، يكون الشعر محكمة أخلاقية. يقف الشاعر شاهداً على الجرائم، وضميراً حياً في وجه الصمت العالمي. يقول جاسم الصحيّح في قصيدة بعنوان «الحرب حينما تبتسم»: «منذ دهرٍ/ وما زلتَ ترضع منِّي دمي/ أيُّها الصَّيرَفِيُّ النَّهِمْ/ منذ دهرٍ/ وما زلتَ ترضع منِّي دمي/ دون أن تَنفَطِمْ/ أنتَ لستَ هنا/ آدمَ الكائنات الجديدَ/ ولستُ أنا/ آدمَ العالَم المُنصَرِمْ/ ولكنَّها الحربُ يا قاتلي حينما تبتسمْ!».
مِثْلُ هؤلاء الشعراء استخدموا الكلمات لنقل رعب الحرب وصوَّروا فظاعات الحروب بلغةٍ حيَّةٍ تنفذ إلى الوجدان، لم يكتفوا بوصف الدم والدمار، بل التقطوا الألم الإنساني من زواياه المتعددة، فالشعراء كثيراً ما ينزعون قناع المجد عن الحروب، حينما يهملون دعاوى النصر الخاوية التي يطلقها قادة الحروب ويكتبون عن جثث الأطفال وصرخات الأمهات، بعيداً عن الأمجاد الزائفة التي تبررها، يقول بريخت: «من في القمة يقولون: هذا طريق المجد/ من في القاع يقولون: هذا طريق القبر».
هكذا الحرب، إذن؛ الجنرال يبني نصباً تذكارياً… والجندي يبني قبراً.
أو كما صرخ زهير بن أبي سلمى، في وجه قومه، أيام «داحس والغبراء»، قائلاً: «وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ/ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ/ مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَة/ وَتَضْرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ».