التكنولوجيا التي اجتاحت حياة الإنسان بدلاً من أن تكون في خدمته

في لحظةٍ ما من هذا العصر المتسارع، ظنّ الإنسان أنه أخيرًا امتلك مفاتيح الحياة السهلة والمضمونة. تكنولوجيا تتسابق في تلبية الحاجات، وذكاء اصطناعي يُقال إنه سيغنيه عن المشقّة، والألم، والخطأ. لم تكن البشرية في تاريخها بهذا القرب من أدواتها، لكنها أيضًا لم تكن يومًا بهذا البُعد عن ذاتها. فما بدا نعمة في ظاهر الأمور، سرعان ما انقلب، في عمق التجربة، إلى عبءٍ ثقيل وخللٍ فادح في موازين الحياة.
فبدل أن تخدم التكنولوجيا الإنسان، بدأت تخترقه. لا بمعنى الاختراق المعلوماتي فحسب، بل الأخطر منه: الاختراق الوجودي. تحوّلت من أداة مساعدة إلى قوة ناعمة تُعيد تشكيل تفكير الإنسان، وتضعف حواسه، وتعيد برمجة علاقته بالعالم، وبنفسه، وبالآخر. بتنا نعيش في زمن تُدار فيه الحروب عبر الشاشات، وتُوجَّه فيه القرارات بخوارزميات لا تحمل أيّ إحساس بالرحمة أو المسؤولية.
ما يُسمّى بالحروب “الذكية” أصبح واقعًا مرعبًا، تُطلق فيه الطائرات المسيّرة من دون طيار على أهداف تُحدّدها برامج تحليلية، وتُرتكب فيه الجرائم دون أن تترك أثرًا بشريًا مباشرًا. إنها حروب لا دموع فيها ولا ضمير. وتحت مسمّى التقدّم، تُراقَب الشعوب، وتُخترَق خصوصياتها، وتُدار عواطفها بالضغط الصامت، والصورة الموجَّهة، والخبر المُفخّخ.
لكنّ الصورة ليست قاتمة بالكامل. فبعض الدول، وقد استشعرت الخطر، بادرت إلى كبح هذا الاندفاع نحو الرقمنة الشاملة. فنلندا، على سبيل المثال، أعادت في مدارسها الاعتبار للكتاب الورقي، وشجّعت على التعلّم في أحضان الطبيعة، بعيدًا عن الشاشات. السويد خفّضت حضور الأجهزة الإلكترونية في الصفوف الأولى، ونيوزيلندا أعادت النظر في اعتمادها على التعليم الرقمي. تلك ليست خطوات رجعية، بل محاولات جريئة لاسترجاع التوازن بين الإنسان وأدواته، بين ما هو رقمي وما هو حيّ، بين العقل وبين الحواس.
ومن موقعي كأستاذ جامعي وباحث، أرى أن المبالغة في الاعتماد على التكنولوجيا تقودنا، من حيث لا ندري، إلى مغامرات تُغذّي جشع الإنسان بدل أن تُهذّبه. نحن نُخضع الكوكب لتقنيات تفوق حكمتنا، ونصغي إلى أنظمة نمنحها ثقتنا الكاملة، بالرغم من أنها لا تملك شعورًا ولا ضميرًا. حين تفقد التكنولوجيا روحها الإنسانية، تصبح أقرب إلى سلاحٍ صامت، يقتل لا بالرصاص، بل بالفراغ، والعزلة، وفقدان المعنى.
ليست الأزمة في التكنولوجيا ذاتها، بل في غياب البوصلة الأخلاقية التي تُوجّهها. ليست المشكلة في ذكاء الآلة، بل في غفلة العقل الذي يسلّمها زمام القيادة من دون مساءلة. نحن لا نرفض التقدّم، بل نرفض أن نُختزل فيه. لا نريد أن نعود إلى الوراء، بل أن نتقدّم بوعي، لا بانبهار.
إنّ إنقاذ المستقبل لا يكون بمزيد من الشاشات، بل بمزيد من اليقظة. والتقدّم الحقيقي لا يُقاس بسرعة المعالجات، بل بقدرة الإنسان على أن يبقى إنسانًا. أن تبقى له الكلمة، والضمير، والحقّ في التوقّف، في التأمّل، في السؤال: إلى أين نمضي؟ وهل ما نمضي فيه هو طريق، أم هاوية ملساء تزيّنها الإضاءة الذكية؟