متاهة أمين معلوف للذين يشعرون بالضياع

استمتعت بقراءة كتاب «متاهة الضائعين»، للبناني الفرنسي المبدع أمين معلوف، الذي هاجر لفرنسا في السبعينيات، وأصبح، بجدارة، عضواً في «الأكاديمية الفرنسية» المرموقة، التي تتألف من أربعين عضواً، يُعرفون باسم «الخالدين». ينتخب الجدد منهم أعضاء الأكاديمية نفسها، ويشغلون مناصبهم مدى الحياة، ولكن يجوز لهم الاستقالة أو الفصل لسوء السلوك، ويشغل معلوف أيضاً منصب أمينها العام.
يتناول كتاب معلوف العلاقة والصراع بين الغرب وخصومه عبر التاريخ، وبالذات في منطقة جنوب شرق آسيا، وتحديداً الصين واليابان، إضافة لروسيا السوفيتية، وعلاقة أوروبا مع العالم الجديد أو أمريكا. ويستعرض الكتاب مسار تلك القوى، بدءاً من حقبة «الميجي» في اليابان، التي أذهلت العالم بتطورها الصناعي؛ وروسيا السوفيتية، التي شكلت تهديدًا خطيرًا للغرب لثلاثة أرباع القرن قبل انهيارها؛ والصين، التي أصبحت المنافس الرئيسي لهيمنة الغرب في القرن الـ21 بحجم سكانها، وفلسفتها المختلفة، وصولاً إلى ما أصبحت تشكله الولايات المتحدة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الاولى، وانتصارها المبهر بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح ليست فقط الدولة الأكثر تقدماً وقوة، وحتى بطشاً، بل الوحيدة القادرة على الدفاع عن الأرض وسكانها ضد أي خطر خارجي أو وباء داخلي.
تنبأ معلوف، عندما أنهى كتابه قبل سنتين، وقبل أحداث غزة وتداعياتها، بتراجعٍ حقيقي في الغرب، المتمثل بأمريكا أساساً، وهذا ما أصبحنا نراه في شكل إفلاس سياسي وأخلاقي. ولا يعني ذلك أن أعداء الغرب، أو من يتحدونه في حال أو وضع أفضل، فالطرفان لا يملكان، كما يبدو جلياً، القدرة على إخراج البشرية من المتاهة التي تجد نفسها فيها، بعد أن أصبحت منظماته ومؤسساته القضائية شبه فارغة من المعنى، وشبح عودة الحروب العظمى يلوح في الأفق. فحتى الولايات المتحدة، التي كانت تشكل يوماً الأمل، الأخلاقي والمادي، للكثير من دول العالم، أصبحت تلقى الهزيمة وراء الأخرى، فقد صرفت مليارات الدولارات على حربها في أفغانستان، ولم تترك وراءها أثراً، ولا حتى مدرسة أو مستوصفاً، يمكن إسداء فضل بنائه لها، في تناقض واضح مع سجلها المشرّف مع اليابانيين، والألمان، بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن تدخلاتها، المباشرة وغير المباشرة في عشرات دول العالم أثّرت في مصداقيتها، وتاريخ آبائها المؤسسين. كما كانت فضائح أمريكا أو هزائمها في فيتنام، وأفغانستان، ونتيجة غزوها للعراق، الذي كان بطعم الهزيمة، أثر كثيراً في ما اتصفت به الإدارة الأمريكية، على مدى عقود طويلة، من حصافة وإنسانية. ومن ذلك يصل معلوف إلى نتيجة مفادها أن ليس من مصلحة البشرية أن تُقاد بقوة مهيمنة، لا من أمريكا ولا من الصين ولا غيرهما، فهذا سيحول تلك الدولة إلى طاغية متعجرفة، وسيكون في ذلك نهايتها، كما حدث مع غيرها من إمبراطوريات خلال التاريخ البشري، والحل في التعاون ضمن منظمات دولية، لها احترامها وكلمتها المسموعة. فمن السخف مثلاً أن نرى سعي أمريكا الحثيث لتأسيس «محكمة عدل دولية»، ثم تطالب، وتصر وتحصل على استثناء مواطنيها من المثول أمامها، وما أصبحنا نراه من الإدارة الأمريكية الحالية سبق أن توقعه معلوف في كتابه القيم.
يخلص معلوف إلى القول ان المشاكل الهائلة التي يواجهها كوكبنا تفرض على الجميع مواجهتها، من خلال نظام تضامن عالمي، وهذا هو السبيل الوحيد لتجنّب المخاطر المستقبلية، بعد أن فقدت قوته الوحيدة «شرعيتها الأخلاقية».
* * *
ذكرت في مقال الأمس، الذي تضمّن نقداً لمقال محمد الهاشمي، بأن بعض أصحاب المواقف الغريبة، من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ودعمهم المعنوي غير المشروط لإسرائيل، قد يكون سببه كرههم لـ«حماس» وحبهم للمال، الفاسد!
المقصود بهذا الكلام عرف نفسه، وهو حتماً ليس «الهاشمي»، لذا اقتضى التنويه.
أحمد الصراف