النقيب يحيى جامع “المذهل”

النقيب يحيى جامع “المذهل”

كثيرة هي الشخصيات العجيبة والغرائبية التي حكمت في أفريقيا، ويظل النقيب يحيى جامع، رئيس غامبيا السابق، واحداً منها.

أطاح جامع في عام 1994 بالرئيس داودا جاوارا، أول رئيس للبلاد، ضمن نظام ديموقراطي برلماني.
عرفت غامبيا في عهد جاوارا تجربة سياسية مستقرة، لكنها في المقابل تميّزت باقتصاد ضعيف، يعتمد على زراعة الفول السوداني والسياحة.

كان النقيب جامع قائداً للشرطة العسكرية، وفي ربيعه التاسع والعشرين، حينما قاد انقلاباً من دون دماء، وأنشأ مجلساً عسكرياً، وظل رئيساً للبلاد حتى عام 2017.

اتّسم عهده بالاستبداد والقمع وانتهاك الحريات. ثمة نكتة شعبية محلية تختصر المشهد.

سئل أحدهم: ما الفرق بين يحيى جامع والإنترنت؟ فأجاب: الإنترنت يربطك بالعالم، أما جامع فيربطك بالحائط إذا تكلمت كثيراً!

لم يُخفِ جامع فخره بديكتاتوريته، فقد أعلن ذلك صراحةً قائلاً: “أنا فخور بأنني ديكتاتور”، ووصف ساخراً سجون بلاده بأنها “فنادق خمس نجوم”، رغم علمه بأوضاعها الفظيعة. كما صرّح ذات مرة أنه سيحكم البلاد “مدة مليار سنة”.

عُرف جامع بحرصه على ارتداء ثوب أبيض فضفاض وقبعة متناسقة، أطلق عليها البعض زي “البروفسور الشيخ”، رغبة منه في كسب هيبة دينية وزعامة روحية.

طعّم جامع إطلالته هذه بحمل مصحف، ومسبحة خشبية، وعصاً لامعة، في محاولة لإضفاء طابع القداسة والسلطة الأبوية.

لم تكن عصا جامع مجرد وسيلة للمساعدة على المشي، بل كرّسها كرمز للقيادة. إنها، باختصار، تحمل رسالة مفادها: “العصا لمن عصى”.

وعقب استيلائه على السلطة، ارتدى جامع أنواعاً غريبة وعجيبة من القبعات، جعلته شخصية فكاهية بسبب طولها أو زواياها غير المعتادة، لكنها أصبحت علامة مميزة ساهمت في ترسيخ حضوره البصري في المجتمع الغامبي.

لم يكتفِ النقيب جامع بجعل نفسه زعيماً سياسياً وروحياً، بل أعلن نفسه زعيماً طبياً أيضاً. ففي عام 2007، ادّعى أنه اكتشف “علاجاً طبيعياً” لفيروس نقص المناعة (الإيدز)، باستخدام خليط من الأعشاب وتراتيل دينية وروحية.

كان يشرف بنفسه على “علاج” المرضى، محدداً مواعيد لذلك يومي الإثنين والخميس، وأجبر الآلاف منهم على ترك الأدوية المضادة للفيروسات وتناول خلطاته، مدّعياً أن العلاج لن ينجح من دون ذلك. ورغم إدانة منظمة الصحة العالمية للأمر، تمسك جامع بادعاءاته الخرافية لسنوات.

اتخذ جامع العديد من القرارات والسلوكيات الخارجة عن المألوف، كإصداره أوامر تمنع الشباب من لعب كرة القدم خلال موسم الزراعة، وإلزامهم بالبقاء في الحقول. وإطلاقه حملة قومية لتطهير البلاد من السحرة، إذ أرسل جنوداً برفقة مشعوذين وقبضوا على مئات القرويين، وأجبروهم على شرب أعشاب لطرد الأرواح الشريرة.
كانت حملته مبنية على إيمانه الراسخ بأن السحر كان سبباً في وفاة عمّته، حتى إنه قال: “لن أرتاح حتى أطرد كل ساحر من غامبيا!”، ما دفع الصحافة الغربية إلى إطلاق لقب “صائد السحرة الرئاسي” عليه.

من طرائفه أيضاً أنه حين تأخرت رحلة رئاسية له إلى خارج البلاد، وسُئل عن السبب، قال: “النجوم لم تكن مصطفّة. لا أتحرك قبل أن يقرأ لي المنجّم خريطة الطريق”، لكن الإعلام المحلي كشف لاحقاً أن الطائرة كانت ببساطة معطّلة!

في عام 2015، أعلن جامع فجأة أن بلاده “أصبحت دولة إسلامية”، لكن من دون دستور أو قوانين تدعم ذلك. وبعد موجة من الاحتجاجات، صرّح قائلًا: “أنا لم أقل إنها دولة شريعة، بل روحية”.

ومرة سأله مذيع محلي: “هل أنت منقذ الأمة؟”، فأجابه جامع: “أنا أكثر من ذلك… أنا معجزة تسير على قدمين”.

لم يتمالك المذيع نفسه من الضحك، فوجد نفسه منقولًا من العمل الإذاعي إلى مكتب للطباعة!

بعد خسارته أمام المعارض أداما بارو في انتخابات عام 2016، رفض جامع الاعتراف بالنتيجة لبضعة أيام، ثم هدّد بإعلان حالة الطوارئ واللجوء إلى المحكمة العليا.

لكن قوات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) تدخلت في كانون الثاني/يناير 2017، وأجبرته على الرحيل إلى المنفى في غينيا الاستوائية.

دام حكم جامع في غامبيا 23 عاماً، وخسر رهان “المليار سنة”، لكنه ظفر بألقابه الطويلة والغريبة التي أطلقها على نفسه، والتي فُرض ذكرها كاملة في وسائل الإعلام الرسمية، من قبيل: “صاحب الفخامة الشيخ البروفسور الدكتور الحاج يحيى عبد العزيز جميل جونكونغ جامع، بابا ملاي، القائد الأعلى، باني الأمة، سيد الزمان، فاتح الحق، العارف بالله، الطبيب الروحي والزعيم الأوحد لغامبيا”.

لم يكن لدى جامع سعة صدر لتحمّل سماع كلمة “معارضة سياسية”، فأمر رسمياً بحظر ذكرها في الإعلام، الذي ابتكر بديلًا غريباً هو: “الكتلة غير المتفقة مؤقتاً مع النهج الرئاسي”. وقال: “في غامبيا، المعارضة ليست وجهة نظر، بل خيانة!”.

غادر جامع أروقة السلطة قبل نحو ثماني سنوات، لكنه ترك وراءه إرثاً من الغرابة والعجائب، جعله يستحق بجدارة أيضاً لقب “العجيب”.