الأكراد ودورهم الاستراتيجي في سوريا والمنطقة

يُعتبر الكرد من أوائل المعارضين لنظام الأسد الأب والابن، ولسياسات حزب البعث العنصرية بحق الشعب الكردي، حيث انتهج بحقهم مشاريع عنصرية منذ الستينات، ومن أبرزها تجريد الجنسية السورية عن عشرات الآلاف من الكرد من خلال إحصاء عام 1962 لأسباب شوفينية، وأيضاً مشروع الحزام العربي الاستيطاني عام 1965، بالسيطرة على أراضٍ سكانها الأصليون من الكرد “700 ألف دونم من الأراضي”، وتوطين عائلات عربية من الرقة ودير الزور وحلب، بهدف التغيير الديمغرافي، ونزع الهوية الكردية من خلال تعريب المناطق الكردية، وفصلها عن الامتداد القومي والجغرافي للكرد في تركيا وكردستان العراق، حيث امتد الحزام بطول 300 كيلومتر، وعرض 10 إلى 15 كيلومتراً من الحدود العراقية في الشرق إلى مدينة رأس العين غرباً.
أيضاً، قامت السلطات السورية بتعريب القرى والبلدات الكردية بتغيير أسمائها إلى أسماء عربية، وأبعدت المواطنين الكرد عن تولي أية مناصب حكومية، أو الانخراط في الجيش، وكان تولي الوظائف الحكومية يمر عبر أجهزة المخابرات. أيضاً، حرمت السلطات البعثية الكرد من ممارسة أية حقوق ثقافية، حيث كانت اللغة الكردية ممنوعة تماماً في المجتمع، وكذلك الاحتفال بالعيد القومي “نوروز”، وبالتالي لجأ الكرد إلى تشكيل الأحزاب السياسية القومية وبشكل سري، لأنه لم يوجد في سوريا قانون ترخيص عمل الأحزاب السياسية، حيث بقوا تحت تأثير المد القومي والإيديولوجي للأحزاب الكردستانية في العراق وتركيا وإيران.
أولى المظاهرات في سوريا ضد النظام قام بها الكرد في دمشق والقامشلي في عهد الأسد الأب حين منعهم من الاحتفال بعيد نوروز عام 1986، وقام الحرس الجمهوري بإطلاق الرصاص عليهم واستُشهد الكردي “سليمان أدي”. بعدها لجأت بعض الأحزاب الكردية منذ التسعينات إلى ثقافة الملصقات والمنشورات في المحافظات السورية، مطالبين بالحقوق الكردية، حيث تعرضوا للقمع والاعتقالات دون محاكمات مدنية. واستمروا في المظاهرات الدورية في دمشق وحلب مطالبين بالديمقراطية لسوريا، والحقوق المشروعة للشعب الكردي. وهكذا، إلى أن انتفض الكرد في “انتفاضة القامشلي 2004” على أثر أحداث ملعب نادي الجهاد الرياضي، وقيام مشجعي نادي دير الزور “الصدامي” بشتم الكرد والرموز الكردستانية، وإطلاق الأمن النار على المتظاهرين الكرد، وهذا بسبب سقوط نظام صدام حسين في العراق، وخشية النظام السوري أن يتأثر الكرد في سوريا بإنجازات كردستان العراق القومية والسياسية، ولهذا خطط لتخويف الكرد بالعنف والدم والاعتقالات الكبيرة حينها.
حين انطلقت الثورة السورية، انخرط الكرد فيها منذ بداياتها، حيث كانوا يأملون أن تكون الثورة بداية لسقوط الدكتاتورية، والانتقال بسوريا نحو الديمقراطية، وتأسيس نظام فيدرالي اتحادي تعددي.
كان لا بد لي من هذا السرد التاريخي وما تعرض له الكرد من ظلم وقمع، ومواصلتهم النضال لأجل الحريات، وارتباط كل ذلك بالواقع السوري بعد سقوط نظام الأسد، وكونهم نواة التغيير الحقيقي في سوريا الجديدة نحو الديمقراطية. الطموحات الكردية في سوريا، كثاني أكبر قومية في البلاد، تعيش تحت أخطار عديدة، منها أن المسيطرين الجدد على دمشق “هيئة تحرير الشام” لا يقبلون أية عملية ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة، وتأسيس الحكم الرشيد، من خلال انتخابات حرة، ودستور مدني ديمقراطي، يمنح الكرد والأقليات الأخرى حقوقاً عادلة. ورفضهم للفدرالية كحل جامع للتنوع الإثني والطائفي والثقافي والسياسي في سوريا، وحل القضية الكردية في سوريا من خلال الحوار الوطني مع الكرد، وهذا ما يتقاطع فيه الأغلبية العظمى من القوى السياسية السورية، كثقافة إقصائية ما زالت في ذاكرتهم الجمعية من عهد النظام الساقط، وهو “عدم منح الكرد أية حقوق قومية”، ورفض النظام الفدرالي، بذريعة أن ذلك قد يشجعهم على الانفصال، أو إقامة حكم ذاتي في مناطقهم بدعم أميركي – غربي. طبعاً هذا يشجعه ويغذّيه الدور السلبي والمهيمن على السوريين لنظام أردوغان واستخباراته، حيث يرفضون تحقيق الكرد أية مكاسب سياسية وقومية في سوريا المستقبل.
تحديات الكرد وقسد أمام التدخلات التركية في مستقبل سوريا
من المعروف أن تركيا متدخلة عسكرياً وسياسياً في سوريا منذ بدايات الثورة السورية، وبعد سقوط نظام الأسد باتت الهيمنة التركية على حكام دمشق واضحة، وأكثر تأثيراً في تفاصيل خارطة الطريق السورية نحو تأسيس نظام مركزي إسلامي تابع لأنقرة. طبعاً بات أردوغان يملك ضوءاً أخضر من ترامب في توجيه سلطة الأمر الواقع الانتقالية بقيادة أحمد الشرع بما يشرعن النفوذ التركي في سوريا من خلال إقامة قواعد عسكرية، والحصول على عقود واتفاقات لمشاريع استثمارية واقتصادية، وتدريب للجيش السوري وتسليحه، وبالتالي تتمكن تركيا من أن تلعب دور إيران من سوريا، لتصبح قوة مهيمنة ومؤثرة في المنطقة. ولكن هناك عوائق أمام الأطماع التركية وأجنداتها داخل سوريا، وهم الكرد وطموحاتهم السياسية، وكذلك قوات قسد التي تتلقى دعماً من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
يسعى أردوغان إلى الضغط على أحمد الشرع لأجل نزع سلاح قسد ومن ثم إدماجهم كأفراد في الجيش السوري، مع استمرار التهديد بعملية عسكرية ضدهم، أو الدفع بحكام دمشق والفصائل المسلحة إلى حرب ضد المناطق الكردية للسيطرة عليها، ووصول تركيا إلى منابع النفط والغاز، والتحكم الجيوسياسي بتلك المناطق الاستراتيجية. ومن جهة أخرى تسعى أنقرة إلى حرمان الكرد من تحقيق أية طموحات سياسية وقومية، والتي من شأنها أن تصبح دعماً سياسياً وإقليمياً للكرد في المنطقة. ولهذا نجد رفضاً تركياً للفدرالية، واللامركزية التي يطالب بها الكرد كنظام مثالي يجمع السوريين تحت مظلة دستور ديمقراطي تعددي لدولة اتحادية. ولهذا نجد أحمد الشرع والقاعدة الشعبية المؤيدة لحكمه تكرر نفس الأجندات التركية المعادية لمطالب الكرد في سوريا.
الحقيقة، وبالرغم من اتفاق الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي في العاشر من آذار (مارس) الماضي، والذي حدث بإشراف أميركي من البنتاغون، للوصول لتوافقات تنظيمية خلال مدة عام. لكن قسد ترى أنه سيندمج ضمن وزارة الدفاع بشرط أن يبقى كقوة عسكرية ضمن مناطق نفوذها وتابعة لدمشق. وهذا ما ترفضه تركيا، والسبب أن بقاء قسد يعني بقاء الموقف الكردي قوياً واستراتيجياً، وبالنتيجة قد تنجح القوى السياسية الكردية من الوصول لتفاهمات مع حكومة دمشق لفدرالية، أو لا مركزية سياسية، وتشارك في إدارة البلاد والثروات.
قضية قسد وسلاحها مرتبطة بالتحالف الدولي في الحرب على داعش، وبالتالي لن يحصل هذا في ظل استمرار داعش، وتزايد القوى الإسلامية المتطرفة في سوريا، وتواجد عشرات الآلاف من الجهاديين الأجانب، مع إمكانية فشل سلطة الأمر الواقع في توحيد سوريا، وتحقيق الأمن الداخلي، وتأثيراته على أمن المنطقة، والأمن القومي لأميركا وأوروبا. أيضاً لا يثق الكرد وقسد بحكام دمشق، وخاصة بعد المجازر بحق العلويين والهجوم والقتل بحق الدروز.
هذا الواقع السوري بسلبياته، وإصرار تركيا وأحمد الشرع على مركزية السلطة، والتهرب من الديمقراطية، والتشاركية الوطنية للمكونات السورية في حكم البلاد عبر دستور عادل وديمقراطي، يزيد من الهواجس الكردية، واحتمال عودة الدكتاتورية والاستبداد، ودخول الكرد مع الأقليات الأخرى في حالة من الدونية والتهميش والإقصاء والحرمان من كافة الحقوق والواجبات. ولهذا كان المؤتمر القومي الكردي بمثابة خارطة طريق كردية لأجل ضمان حقوق الشعب الكردي في سوريا، وكذلك رؤية كردية للحل السياسي لسوريا بما يحفظ وحدة البلاد، وينقلها لعهد من الاستقرار السياسي والاقتصادي بعد عقود طويلة من الطغيان والظلم والهيمنة الإيرانية.
ما يزيد من قوة الموقف الكردي هو الشروط الأميركية الغربية على أحمد الشرع وعلى تركيا بضمان حقوق الكرد والأقليات في الحكم، وهذه ضمانة استراتيجية غربية لدعم حلفائهم الكرد في المنطقة، بعد هزيمة داعش، وارتباط المصالح الأميركية والأوروبية بالكرد في الشرق الأوسط.
أيضاً تجد إسرائيل نفسها أنها أمام التزام أخلاقي ودبلوماسي لدعم الكرد والأقليات في سوريا، كاستراتيجية جيوسياسية لها أمام أطماع تركيا وإيران، وخطط أردوغان للهيمنة والنفوذ في سوريا، ودعمه للجماعات الإسلامية في المنطقة، والتي تشكل خطراً على أمن إسرائيل، ورغبة إسرائيل في تحقيق سلام مع العرب من خلال اتفاقية إبراهام التي يعمل ترامب على تحقيقها، والتي قد تنهي الحروب والنزاعات في المنطقة.
بدون الكرد وحقوقهم لا استقرار في سوريا
الكرد يشكلون 16 بالمئة من سكان سوريا، وهم يعتبرون لاعباً سورياً وإقليمياً مهماً جداً للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ولن يكون هناك تخلٍ عنهم في ظل محاولات تركيا للهيمنة على سوريا، وإقصاء الكرد من الشراكة في حكم سوريا، وإدارة البلاد عبر نزع سلاحهم، وحرمانهم من حقوقهم السياسية والقومية، لأن الكرد هم صمام الأمان والاستقرار لسوريا فيما لو تمّت معاملتهم كشركاء حقيقيين، وليس كرعايا تابعين، وترهيبهم بالعنف والإقصاء لإرضاخهم كما فعل نظام الأسد وحزب البعث. يسعى الكرد للعب دور هام وبارز في بناء سوريا الجديدة ودمقرطتها، وتحقيق الحكم الرشيد بالشراكة مع كافة المكونات السورية الأخرى، ولكن تدخلات تركيا واحتلالها لمناطق سورية، وهيمنتها على السلطة في دمشق سيدفع بسوريا إلى الفشل، وعودة الحرب، مع إمكانية كبيرة لنشوء حرب أهلية، ولهذا سيكون من الأهمية تنامي الدور الأميركي والغربي – العربي في سوريا، وخاصة أن يكون هناك دور حيوي واستراتيجي لكل من السعودية والإمارات في سوريا، للضغط باتجاه انسحاب تركيا عسكرياً من سوريا، خاصة مع موافقة حزب العمال الكردستاني على حل نفسه وتسليم سلاحه، وبالنتيجة بقاء تركيا كقوة احتلال في سوريا بحجة محاربة العمال الكردستاني هو كذبة كبرى، هدفها الهيمنة على سوريا وسيادتها، وتحويلها إلى سوق استهلاكية تركية، والسيطرة على منابع الطاقة، والغاز والمياه الإقليمية، وجغرافيا مهمة تمكّن أردوغان من تهديد مصالح الجيران، وليصبح لاعباً أساسياً ذا نفوذ في الشرق الأوسط.
كل المؤشرات تتجه نحو صدام مع الكرد عبر تركيا التي من مصلحتها خلق حرب جديدة بين الإسلاميين والكرد في سوريا، للتمكن من إقناع ترامب أن تركيا يجب أن تهيمن على سوريا، لعدم ضمان عودة إيران، والدفع بروسيا لمغادرة سوريا، ولكن هذا ليس بالسهولة أمام التدخل الإسرائيلي في سوريا، وليس من السهولة كسر شوكة الكرد وأهميتهم كورقة جيوسياسية لمصالح الغرب والعرب في المنطقة، ولهذا سيكون من مصلحة السوريين، والمنطقة التوصل لتفاهمات وحلول تشاركية بين الكرد وغيرها من المكونات السورية، وأن تصبح سوريا دولة ديمقراطية تعددية اتحادية، ستحميها من أية حرب أهلية، أو هيمنة تركية – إسلامية متطرفة، وتصبح سوريا دولة شريكة مع المحيط العربي الحيوي.