غرينلاند: الجزيرة التي أطلقتها الطموحات الأميركية

لفترة طويلة، لم تكن جزيرة غرينلاند حاضرة في الأذهان، ولا في عناوين الأخبار. تقبع هناك، بين الثلوج والصمت، تعيش على هامش الخرائط، دون أن يلتفت إليها أحد إلا من تخصص في المناخ أو البحّارة العابرون شمالًا. ولكن فجأة، ومن دون مقدمات، أصبحت هذه الجزيرة البيضاء محط الأنظار، وموضوع جدل سياسي دولي، لا بسبب ظاهرة طبيعية أو كارثة بيئية، بل بسبب تصريح طموح – أو متهور – من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
قال ترامب ذات يوم إنه مهتم بـ«شراء» غرينلاند من الدنمارك. ضحك البعض، واستنكر البعض الآخر، فيما وقفت الدنمارك مذهولة من الطرح برمّته. لكنه لم يكن مجرد كلام عابر. لقد كشف هذا التصريح، بالرغم من غرابته، عن اهتمام أميركي متزايد بالمنطقة القطبية، وبالجزيرة التي كانت حتى الأمس القريب، لا تثير شهية أحد.
غرينلاند، وهي أكبر جزيرة في العالم، لا يتجاوز تعداد سكانها عشرات الآلاف من السكان، معظمهم من السكان الأصليين، يعيشون حياة بسيطة بين صيد الأسماك وتربية الكلاب واستخدام الزلاجات. في المقابل، فإنها تتمتع بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، وتزخر بموارد معدنية وطبيعية واعدة، خصوصًا مع ذوبان الجليد وتسارع التغير المناخي. لم تعد الجبال الجليدية سجنًا، بل صارت بوابة لمخزون محتمل من الثروات، ما جعل عيون الكبار تتجه صوبها.
الاهتمام الأميركي لم يكن معزولًا. الصين وروسيا أيضًا أبدتا رغبتهما في الحضور في هذه البقعة الشمالية، سواء عبر مشاريع تنموية أو تعاون اقتصادي، وكل ذلك تحت غطاء التبادل والمساعدات، لكن الهدف الحقيقي كان ولا يزال النفوذ والسيطرة.
الواقع أن سكان غرينلاند أنفسهم يعيشون حالة من التردد. فهم من جهة مرتبطون إداريًا بالدنمارك، ومن جهة أخرى يتمتعون بحكم ذاتي موسع، ويسعون تدريجيًا نحو الاستقلال. لكن طموحات الاستقلال تصطدم بالواقع الاقتصادي. فالجزيرة، بالرغم من جمالها الطبيعي، تفتقر إلى البنى التحتية والخدمات الكافية، وتعتمد ماليًا على دعم كوبنهاغن.
أمَّا حياة السكان اليومية، فلا تزال تسير بوتيرتها البطيئة. لا زحام هناك، ولا ضجيج. الطبيعة تحكم الإيقاع، والثلج يغلف كل شيء. ومع ذلك، فإنهم باتوا يدركون أن جزيرتهم لم تعد منسية، وأن العالم صار يراقبها، وربما يطمع بها.
غرينلاند اليوم تقف عند مفترق طرق. هل تظل هادئة كما عهدناها، أم تتحول إلى ساحة من ساحات التنافس العالمي؟ المؤكد أن الجليد لم يعد كافيًا لإخفاء أهميتها، وأن ما كان يُعتبر في الماضي أرضًا منسية، صار اليوم أحد مفاتيح المستقبل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستظل غرينلاند تحت سيطرة الدنمارك، أم أن القوى الكبرى ستنجح في تحقيق أطماعها؟ يبدو أن الجزيرة، التي كانت منسية بين الجليد، أصبحت الآن محور اهتمام عالمي، مما يضعها في قلب الصراع على النفوذ والموارد في المنطقة القطبية.
حيث تُظهر قضية غرينلاند كيف يمكن لموقع جغرافي نائي أن يتحول إلى ساحة صراع عالمي، وكيف أن التغيرات البيئية والاقتصادية يمكن أن تعيد تشكيل خريطة القوى الدولية. فهل ستظل غرينلاند جزيرة منسية، أم أنها ستصبح مركزًا لصراع عالمي على النفوذ والموارد؟