رسائل من البكتيريا… بلغة الإشعاع!

رسائل من البكتيريا… بلغة الإشعاع!

إيلاف من سان فرانسيسكو: في تطوّر لافت يمزج بين الذكاء البيولوجي والتقنيات البصرية، نجح مهندسو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology – MIT) في تصميم نوع جديد من البكتيريا المبرمجة التي يمكنها “التواصل” مع البشر… ليس عبر الأصوات، بل من خلال الضوء. تُضيء هذه الكائنات الدقيقة بلونٍ مميز عند رصدها لمادة ملوِّثة في التربة، ويمكن التقاط إشاراتها من مسافات تصل إلى 90 مترًا باستخدام كاميرات متخصصة.

البكتيريا ببساطة تُشبه “مستشعرًا حيًا” يتحرك داخل التربة أو يُزرع فوق سطح معيّن، ويبدأ بإطلاق ضوء ملوّن إذا اكتشف وجود عنصر مضر أو تغيّر في التوازن البيئي. الضوء الذي تُطلقه هذه الخلايا غير مرئي للعين المجردة، لكنه يُلتقط من خلال كاميرات حساسة تُعرف باسم hyperspectral، قادرة على قراءة الألوان الخفية وتحليلها.

ما يجعل هذا الابتكار مثيرًا هو بساطته: لا حاجة لأجهزة أو طاقة أو إرسال فرق ميدانية. بل كل ما تحتاجه هو بكتيريا مزروعة في المكان، وكاميرا ترصد عن بعد، وستصل إليك الإشارة حين يحدث أمر غير طبيعي.

الفريق العلمي في MIT استخدم أنواعًا مختلفة من البكتيريا، كل نوع منها مبرمج ليستجيب لمادة محددة: كالزئبق، أو المعادن الثقيلة، أو علامات نقص العناصر المغذية في الزراعة. وعند حدوث هذا التفاعل، تُضيء الخلية بلون فريد يدلّ على المشكلة. يمكن نشر هذه البكتيريا على نطاق واسع في الحقول الزراعية أو المناطق البيئية الحساسة، ومراقبة النتائج مباشرة من الجو أو من برج مراقبة ثابت.

لكن الفكرة لا تقف عند هذا الحد. الباحثون يرون في هذه التقنية بداية لأشياء أكبر. تخيّل استخدامها لرصد الألغام الأرضية القديمة، أو التسريبات الإشعاعية، أو حتى مواد خطيرة تحت سطح الماء! مع بعض التعديلات الجينية، يمكن برمجة البكتيريا بحيث تضيء فقط عند وجود هذه العناصر. ومع تطور الكاميرات المحمولة على الطائرات بدون طيار، سيصبح بالإمكان قراءة هذه “الإشارات الحية” بسهولة، من دون أن يُعرّض أي إنسان نفسه للخطر.

بل إن بعض الباحثين بدأوا يفكرون في تطبيقات أكثر إبداعًا: هل يمكن استخدام هذه البكتيريا مستقبلاً في الفضاء لرصد إشارات حياة أو تلوّثات خارج الأرض؟ هل يمكن تطوير ألوان ضوئية تشير إلى تسرب كيميائي قبل أن يشعر به أحد؟ ربما.

ومع ذلك، هناك بعض المحاذير. فهذه كائنات حية، وليست أجهزة. إدخالها إلى البيئة يحتاج لضوابط مشددة لضمان عدم خروجها عن السيطرة. كما أن الكاميرات المطلوبة لقراءة الإشارات ما زالت مرتفعة الثمن، ما يجعل تعميم الفكرة في دول محدودة الموارد أمرًا صعبًا في الوقت الحالي.

لكن المؤكد أن هذا المشروع يفتح نافذة جديدة على عالم المراقبة البيئية، حيث نستبدل الأجهزة التقليدية بكائنات دقيقة تفهم البيئة وتتفاعل معها. في المستقبل، قد نرى مدنًا ذكية لا تضيء شوارعها فقط، بل تُضيء تربتها وهواءها ومياهها… من خلال لغة صامتة تنبع من الحياة نفسها.