إسرائيل: «تحديث حديث»

ما إن بدأت إيران بالرد على الهجمات الإسرائيلية، وشاهدنا الناس يهرعون إلى المخابئ حتى بدأت المدائح بالدولة العظيمة التي تحترم مواطنيها وتهيِّئ لهم الأمن والحقوق والمخبأ، ليتبين سريعاً أن بعضهم يركضون في كل مرة ربع ساعة أو أكثر، ليصلوا إلى ما يشبه غرفة محمية، تقيهم شر القذائف. واشتكى نصف الإسرائيليين، من تقصير حكومتهم التي تركتهم بلا ملاجئ، وشنت حرباً تعجز عن حمايتهم منها. وهم ليسوا ضد الحرب بالطبع، بل اعتراضهم على سوء التدبير، وتمييز الأحياء الجديدة، بينما تُركت المناطق القديمة لقدرها.
الأوهام حول عظمة إسرائيل وفيرة. لكن الأحداث المتتابعة تجعلك تفكر كيف يكون بلد ديمقراطي ورئيس وزرائه هو نفسه منذ ثلاثين سنة؛ يقيم ألاعيبه، ويشن حروبه، ويَسوق شعبه إلى ارتكاب مجازر هائلة، ومحاكم دولية، وسوء سمعة، مع غسيل أدمغة، على الطريقة الستالينية. إذ لا يزال غالبيتهم يصرخون بقناعة راسخة أن جيشهم هو الأكثر أخلاقية على الإطلاق، وبلدهم هو الديمقراطي الوحيد في المنطقة.
غريب أنهم لا يرون كيف يطارَد جنودهم ويحاكَمون حتى في أوروبا، ورياضيوهم يُضربون ويُسحلون في شوارع هولندا، البلد الذي كان عاشقهم ومعشوقهم. واضطر نادي «توتنهام» الإنجليزي لكرم القدم إلى أن يحذف تعليقات مشجعي لاعبه الإسرائيلي المعروف مانور سالومون العنيفة اللاذعة، على كل مَن وجَّه إليه تهنئة بزواجه. الهجوم على العريس الإسرائيلي والمباركين له، جاء كاسحاً بلا رحمه حتى من معجبيه، بسبب دعمه حرب غزة.
لم يكن أمام النادي سوى حذف التعليقات المسيئة، وحظر الحسابات، ليعود ويتراجع عن فعلته ويعتذر.
تغيَّرت إسرائيل التي كانوا يباهون بها إلى حدٍّ يصعّب دعمها على محبيها. ولّى زمن كانت فيه تبادل مجنداً واحداً مثل جلعاد شاليط بأكثر من ألف أسير فلسطيني. بين عامي 1978 و2011 تحرَّر آلاف الأسرى من فلسطينيين وعرب من السجون، مقابل بضعة إسرائيليين. لم تعد حياة الإسرائيلي ثمينة. تركت حكومة نتنياهو 250 أسيراً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وشنت فوق رؤوسهم حرباً جهنمية، قضى ثلثهم، وتحرر القليل، وبقي الأقل، وقد لا يخرجون أحياء، لكن لا يهمّ. منذ اليوم الأول، جزم عارفون بالحال، بأن آخر ما يفكر به نتنياهو هو حياة الأسرى، مما يجعل جاذبية إسرائيل ليهود العالم تتدنى بشكل حاد.
صارت أخبار الإعلام الإسرائيلي، شبيهة ببيانات حزب البعث، وأحمد سعيد من «صوت العرب» حين كان يعلن عن الانتصارات الساحقة في حرب 67. إسرائيل تتحدث عن أنها حققت نصراً ساحقاً، وتستمر في الحرب. تقول لمواطنيها إنها حررت خان يونس من «حماس»، لتعود وتحتلها مرة جديدة، وإنها تستطيع أن تقضي على البرنامج النووي الإيراني، ثم تستجدي تدخل واشنطن.
نعم تغيَّرت إسرائيل كثيراً، صار سكانها مثلنا يهرعون في الظلام هاربين من بيوتهم تحت القصف، ويستشيطون من تقصير حكومتهم، ويرمي شبانهم بأنفسهم على متن مراكب صغيرة من موانٍ غير مجهَّزة، أملاً في الوصول إلى قبرص أو اليونان. يُقفل مطارهم ويَعْلَقون في عواصم العالم لا يستطيعون العودة. هاجر خلال العام الماضي عشرات الآلاف، منهم أطباء ومهندسون وأساتذة جامعيون وبحاثة وخريجون طامحون إلى غدٍ أفضل، وكل من لا يرى مكاناً له وسط جنون بلا افق.
باتوا حقاً يشبهوننا، وإنْ قال رئيس وزرائهم إنه يغيِّر المنطقة، ويفرض سلطته على الجميع، ويقود سبع حروب في وقت واحد.
آمال الإسرائيليين اليوم، وهم يعرفون هشاشتهم، معلَّقة بالنجدة الأميركية. يعرفون أنهم وحدهم، يخوضون حرب استنزاف طويلة ومكلِّفة. يريدون ضربات قاضية على إيران من حليفتهم الكبرى. يتمنون لو تصبح إسرائيل الولاية الأميركية الـ51. لكن الحسرة تكبر لأنهم يدركون أنهم ينخرطون في وحول المنطقة حتى الغرق، بينما الرأي العام الأميركي، يتبدل بسرعة، وبعد سنوات قليلة جداً لن يكون في صالحهم.
المتفائلون مثل سفير أميركا لدى إسرائيل، مايك هوكابي، يعتقدون أن الأميركيين تحت تأثير وسائل إعلام مغرضة مثل «سي إن إن» و«نيويورك تايمز»، والجامعات المنتفضة مموَّلة من جهات إبليسيّة. لكنَّ صحافياً إسرائيلياً مخضرماً مثل ستيف ليندي، كان مدير مكتب «أسوشييتد برس» يُحذر من أن إسرائيل إنْ بقيت تُغرق نفسها في حفلات قتل وعنف، لن تجد من يدافع عنها. ويرى أن استمرار السلوك العدواني لإسرائيل على كل من حولها، يجعل اليهود الأميركيين، لا يديرون ظهرهم لإسرائيل فقط، كما بدأ يفعل بعضهم، وإنما سيرفضون مجرد التعامل معها أو حتى زيارتها.
بمقدور إسرائيل أن تدمّر كثيراً وتذبح وتجوّع وتحتلّ ما دامت مزوَّدة بأسطول من طائرات يفوق ما تملكه دول أوروبية كبيرة مجتمعةً، وتحصل على آلاف الأطنان من القنابل المتفجرة.
القتل وحده لا يكفي لتثبيت معادلات ضعيفة، وصُنع تاريخ لشعب بلا جذور، وسط جيران تزداد قلوبهم نقمة من سفك الدماء.