التردد الأخلاقي أمام توافق المجتمع

في الفيلم الأميركي (12Angry Men)، الصادر في عام 1957، تتكثف الدراما كلها في قاعة صغيرة، لا يتغير فيها المكان، لكن تتغير فيها العقول والقلوب شيئًا فشيئًا. ابن متهم بقتل والده، وكل الأدلة الظاهرة تشير إلى أنه مذنب. أحد عشر محلفًا لا يرون ضرورة للإطالة أو المراجعة، كل شيء – كما بدا لهم – واضح، محسوم، بل ربما ممل، مجرد إجراء شكلي قبل إصدار الحكم النهائي. لكن رجلًا واحدًا، لم يكن مقتنعًا تمامًا، ولم يكن على يقين كافٍ ليدين المتهم. لم يقل “إنه بريء”، بل قال ببساطة: “لست متأكدًا”.
هذا الشك، الذي بدأ صغيرًا، خجولًا، وبدا لمعظم الجالسين نوعًا من العناد أو التلكؤ غير المبرر، لم يكن في حقيقته إلا نوعًا عميقًا من الأمانة الداخلية. لم يكن الرجل يبحث عن تبرئة، بل عن الفهم. لم يكن يريد أن يكون على حق، بل أن يكون منصفًا. وهنا تبدأ القصة الحقيقية. فذلك الشك الصغير تحول مع الوقت، ومع الحجاج، ومع إعادة النظر، إلى قوة قادرة على أن تهز يقين أحد عشر رجلًا آخر، بعضهم متعصب، وبعضهم متعجل، وبعضهم ببساطة لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير.
الدرس الأول الذي يخرج به من لا يكتفي بمتابعة الفيلم كوسيلة تسلية، هو أنَّ الشك ليس ضعفًا، ولا ترددًا سلبيًا، بل قد يكون أقرب الطرق إلى الحقيقة، لا سيما حين يكون الإجماع قائمًا على أوهى الأسس، أو على تحيزات شخصية لا يُعترف بها. الشك الصادق هو نداء داخلي لإعادة النظر، وتوسيع زاوية الرؤية، والخروج من أسر المسلمات. إننا غالبًا ما ننظر إلى من يشك باعتباره مزعجًا، مقلقًا للسكون العام، بينما قد يكون هو الشخص الوحيد الذي يرى الكهف من خارجه.
في قاعة المحلفين تلك، لا نرى الحقيقة فقط من خلال الأدلة، بل من خلال ما يُكشف عن كل واحد من الشخصيات. فجأة تبدأ الأسئلة بالظهور: لماذا حكم هذا الشخص بهذه الطريقة؟ هل لأنَّ الدليل أقنعه؟ أم لأنَّ ماضيه، غضبه، إحباطه، تعبه، تعصبه، قد تكفلت كلّها ببناء قرار سابق على أي تفكير؟ العدالة، كما يتضح، لا تعوقها فقط قلة الأدلة، بل تعوقها الذات: تلك الشبكة المعقدة من التجارب والمشاعر والمواقف والانفعالات التي نُسقطها على القضايا دون وعي.
وهنا، يمكن للمرء أن يرى كيف أن العقل البشري، حين لا يُراقب ذاته، قد يصبح أداته الأخطر في ظلم الآخرين. لم يكن أكثر المحلفين يظلمون عن قصد، لكن بعضهم كان يسرع، وبعضهم كان يحكم بمشاعره، وبعضهم لم يشأ أن يبدو ضعيفًا أمام المجموعة. حتى العدالة، وهي من أسمى القيم، لا تتحقق إلا حين نكون شجعانًا بما يكفي لنقول: “لا أعلم، أمهلوني لحظة أخرى من النظر”.
ولعلَّ من أعظم ما يُظهره الفيلم أنَّ الحقيقة لا تُرى من زاوية واحدة. لم يكن التحول الجماعي نحو التبرئة نتيجة لحجة واحدة قوية، بل نتيجة لتراكم الشكوك، واختبار الفرضيات، وتعدد زوايا النظر. كل شخص حين يتحدث من موقعه، يكشف عن زاوية ناقصة، حتى تكتمل الصورة بالتدريج. الاختلاف هنا لم يكن عبئًا، بل ضرورة. بل إن وجود شخص واحد مختلف، شخص رفض أن يوافق فقط ليجنب نفسه الحرج، كان هو ما فتح الباب كله أمام احتمالية العدالة.
الإجماع، حين يكون سطحيًا، هو العدو الأول للإنصاف. صوت واحد معارض، حين يكون نابعًا من ضمير يقظ، قادر على زلزلة قناعات راسخة ومطمئنة. لكن الأهم أن ذلك الصوت لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يدعو إلى إعادة التفكير فيها. وهذا هو جوهر الشك الأخلاقي كما تجلّى في الفيلم: ليس شكًا هدّامًا أو عبثيًا، بل شك ينشأ من احترام الحقيقة وخوف من الظلم، من شعور بالمسؤولية أمام حياة إنسان، حتى لو كان مجهولًا.
في نهاية الفيلم، لا نعلم هل كان المتهم بريئًا بالفعل أم لا. لكننا نعلم يقينًا أن أحدًا لم يعد يملك الحق أن يدينه بيقين. هذا هو الانتصار الحقيقي: أن تنتصر الروح الأخلاقية للبحث والتأمل والإنصات، على النزعة التلقائية للحكم والإدانة. أن يكون الشك، لا الإجماع، هو ما أنقذ حياة.
في زمن تزداد فيه الضغوط للتفكير السريع، والانحياز السهل، والانصياع للجماعة، يعيدنا هذا الفيلم إلى لحظة نادرة من النقاء الإنساني: حين يصبح قول “لست متأكدًا” علامة شرف، لا عيبًا. وحين يفتح هذا التردد النبيل الباب لعدالة كانت ستُقبر تحت يقينٍ متعجرف.
الشك، حين يكون ضميرًا، قد يغيّر مصيرًا!