الصحافة: السعي نحو التفوق

الصحافة: السعي نحو التفوق

كان صديقي يواظب بصورة دائمة على قراءة الصحف اليومية، كما يتابع ما تنشره الدوريات الأسبوعية والشهرية بشغف كبير. هذا الحب فرضته عليه اهتماماته بالصحافة الورقية التي يعشقها إلى حدّ الجنون منذ الصغر. إنَّ اهتمام ذاك الصديق، في مطلع شبابه، بقراءة الصحف ليس محض صدفة، لا، أبداً، وإنما عادة ترسّخت في ضميره وفي وجدانه، وشكّلت عطشاً لا حدود له، وكان يتابع ما يُنشر وما يكتبه العاملون فيها من صحفيين ومثقفين وكتّاب ممارسين بصورة دورية، ما دفعه للمضي في الاستسلام لهذا الحب الجارف الذي يروق له، ولم يعد بالإمكان مفارقته أو التنصّل أو الابتعاد عنه. وما تشتمل عليه الصحف من مواد صحافية، سواء أكانت خبرية، أو ريبورتاجات وتحقيقات وحوارات، فضلاً عمّا تطرحه من آراء مختلفة وصاخبة في مجالات الثقافة والسياسة، أضف إلى الشأن المحلي، وما تنشره من مواد اجتماعية واقتصادية، وغير ذلك، تلامس فيه هموم المواطن ومعاناته، وهذا ما اعتاد عليه طوال سنوات قضاها متابعاً ومهتمّاً، حتى إنّه لا يفوته يوماً حضوره إلى المكتبة الرئيسة في المدينة التي يعيش فيها، والتي يُعوَّل عليها في استقبال السيارة التي تقوم بنقل الصحف والمجلات من مسافات بعيدة، قاطعةً يومياً ما يزيد على ألف ومئتي كيلومتر، لجلبها وتسليمها إلى صاحب المكتبة المعني، الذي يقوم بدوره بتسليمها إلى أصحاب المكتبات في المحافظة، وبيعها إلى المهتمين بها بأسعار رمزية. وهذا ما كنّا نلمسه ويعانيه كثير من المتابعين للصحافة، الذين يدركون أهميتها، وما تتركه في نفوس عشّاق الحرف من قيمة في معرفة كل ما هو جديد ومفيد، والمعرفة، بلا شك، تعمّ الجميع.

هذه الصورة كما كنّا نقرؤها ونشاهدها ونقف عندها، كانت لها مكانتها في القلب لكل هاوٍ لها، ولدى جميع الشباب والمهتمين الذين كانوا يحرصون تماماً على اقتنائها بصورة يومية، وطالما تستنزف ما يدّخرون من مبالغ، وإن كانت بسيطة، إلا أن ذلك هو سحر الكلمة وعشقها الذي لا يمكن أن نغفل عنه. ذلك العشق المجبول بالرغبة، التي لا يمكن بحال أن تحدّ من شغف هؤلاء المحبين بها ومتابعتها لأجل الحصول عليها، حتى إنّنا كنّا ننتظر قدوم تلك السيارة التي كانت تنقل الصحف، ومن مسافات بعيدة، إلى ساعة متأخرة من النهار، وفي أيام الشتاء الباردة وأمطاره. هذا كله دفعته محبتنا للصحافة، وعشقها الذي لا بعده ولا قبله، والرغبة الجامحة بتحمّل كل ذلك ونحن صغار… وهكذا دواليك.

إنه بالتأكيد عشق صادق للكلمة، وحبّ خالص لهذه المهنة التي تعلّقنا بها، وما زلنا إلى اليوم، إذ ما زالت تُكوّن جزءاً كبيراً من شخصيتنا، وهذا بالتأكيد ينطبق على كثير من الشباب العاشقين لها، ومنهم من استمر، ومنهم من التفت إلى اهتماماته الشخصية، وقلةٌ من ظلّ متلهّفاً وراء ما تنشره الصحف من أخبار ومقالات، ودفع الغالي والنفيس لأجل العشق الذي لا يمكن أن يبعده عنها مهما كانت المغريات، لأنها تتعلّق بشخصيته، وبغريزته، وبالهدف الذي كان يواكب من أجله حبّاً مجبولاً بالوجدان وبالضمير، وهذه الرغبة ظلّت معلّقة بالمهتمين بها وحدهم.

ما زال اليوم هناك كثير من العاشقين والمتحمّسين لـ”صاحبة الجلالة” ممن يدافعون عنها، ويهتمّون بها، على الرغم من كل التحديات التي ما زالت تواجهنا، نحن المتيمون بها، من صعاب كثيرة. ولكن بالمتابعة، وحبّ العمل والإخلاص له، فهذا يعني أنَّ النجاح والألق سيكونان، بالتالي، هما الخطوة الصحيحة التي ستحقّق قبولها من قبل الجماهير التي تتابع وتقرأ، وتقف عند هذا الرأي أو ذاك الحديث، أو التحقيق وغيره، وتنتقد، وليس بداعٍ لأن تُتوّج من قبل “عمر” أو “زيد” من الناس على أنه الأفضل… الأفق واسع، والمواطن ليس بحاجة إلى إرشاد أو توجيه أو نصيحة، وعلى الكاتب والصحافي أن يُقدّم خلاصة عمله وجهده بصدق، ما يجعل النجاح حليفه.