العودة إلى الإسلام: هل تمثل حلاً لشعوب المنطقة؟

العودة إلى الإسلام: هل تمثل حلاً لشعوب المنطقة؟

حين تضيق الأرض على أهلها، ويشتدّ الخناق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يعود الصوت القديم ليعلو من جديد: “لن تعود هذه الأمة إلى مجدها إلا بالعودة إلى الإسلام”. يتكرر هذا النداء كلما انهارت دولة أو فشلت ثورة أو اشتدت التبعية أو تاهت الهُوية، فيتصدر الدين المشهد، لا كقوة إيمان هادئ، بل كوسيلة خلاص جماعية من ضياع الأمة. لكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح: عن أي “عودة” نتحدث؟ وأي “إسلام” نقصد؟

بين الإسلام كمصدر أصيل للحرية والعدالة والكرامة، وبين صوره المحنّطة في أذهان البعض، مسافة هائلة. الإسلام الذي بدأ بتحرير العقول والقلوب لا يمكن أن يُستدعى اليوم كشكل خارجي أو قيد جديد. فأن تقول “نعود إلى الإسلام”، لا يعني أن تعيد إنتاج الخلافة أو تكرار نماذج الحكم القديمة، بل أن تستلهم مقاصده الكبرى، وأن تفعّل في الناس معاني الرحمة والحق والمعرفة.

عبر التاريخ، لم تغب محاولات النهوض باسم الإسلام. من محمد عبده إلى محمد إقبال، ومن جمال الدين الأفغاني إلى عبد الرحمن الكواكبي، توهّجت لحظات فكرية أرادت أن تستلهم من الدين ما ينهض بالأمة لا ما يقيّدها. لكن تلك اللحظات غالبًا ما انطفأت، إما تحت سطوة الاستبداد أو بين أنياب الجهل أو في فوضى السياسة. تحوّلت “العودة” إلى حلم مستحيل، أو إلى ساحة صراع بين من يحتكرون التفسير ومن يجرّمون الاجتهاد.

لقد شهدنا، ولا نزال، توظيفًا كثيفًا للإسلام في مشاريع سلطوية، حيث يتحول الدين إلى واجهة، والفقه إلى أداة، والهوية إلى حصار. في هذا السياق، لا تعود الدعوة إلى الإسلام دعوة إيمانية حرة، بل تتحول إلى إعلان ولاء سياسي، أو رفض للآخر، أو قطيعة مع العصر. وهنا يضيع جوهر الدين، ويتحول من رسالة إلى شعار، ومن نور إلى عصا.

من موقعي كباحث في الفكر الإسلامي، أؤمن بأنَّ الإسلام يحمل في روحه طاقات جبارة للنهضة، لا تنبع فقط من تعاليمه، بل من قابليته للتفاعل مع الإنسان والزمن. لكن تلك الطاقات لا تنفجر إلا إذا اقترنت بالعلم، والحرية، واحترام الكرامة، وتقديس العقل. لا نهضة بالدين وحده، إن لم يتجدد فهمنا له. ولا بعث لحضارة، إن لم يسبق الفقه فيها الضمير، وتتقدّم المقاصد على الحرف.

إنَّ العودة التي نحتاجها اليوم ليست إلى نصوص جامدة، بل إلى قيم حيّة: إلى العدل الذي لا يُفرّق بين الحاكم والمحكوم، إلى العقل الذي لا يخشى الشك، إلى المساواة التي لا تُقصي أحدًا، إلى الرحمة التي لا تختبئ خلف حدود السياسة. فليس المطلوب أن نعود إلى زمن مضى، بل أن نعيد بثّ الروح في ما مات من المعاني، وأن نؤسس لفهم جديد يعيد للمسلم إنسانيته، وللدين إشراقه.

لذلك، لا يكفي أن نرفع شعار الإسلام، بل يجب أن نُجيب عن السؤال الأصعب: أي إسلام نريد؟ هل هو إسلام القهر والطاعة العمياء، أم إسلام الحرية والاجتهاد؟ هل هو الدين الذي يُستخدم للفرز والإدانة، أم الرسالة التي تتسع للمؤمن وغير المؤمن، للسائل والمختلف؟ هل نريده درعًا لسلطة ما، أم حافزًا لتحرير الإنسان من كل سلطة تُهين عقله؟

ليست العودة إلى الإسلام بذاتها خلاصًا، بل نوع العودة هو الذي يحدد المصير. إن كانت عودة للتكفير، فستقسم الناس أكثر. وإن كانت للجمود، فستحبط الأمل. أما إن كانت عودة إلى المعنى، إلى الإنسان، إلى الحوار، فإنها قد تكون بداية الطريق.

شعوبنا لا تحتاج إلى المزيد من الأصنام، حتى لو طُليت بالدين. بل تحتاج إلى وعي ديني جديد، لا يخشى الأسئلة، ولا يهرب من العصر، ولا يخلط بين المقدس والمصالح. وبهذا المعنى، نعم، قد تكون العودة إلى الإسلام خلاصًا، إن هي كانت عودة وعي، لا عودة وهم.