فن السخرية… من تنبيه العقول إلى إثارة الأزمات!

‏الكتابة الساخرة ليست مجرد تسويد صفحات، بل هي مشية على حبل مشدود فوق هاوية من الألغام. إنها فن يحتاج إلى دهاء المهرّج، الذي يُضحك الجمهور بينما يخفي دموعه خلف قناعه. وقد خلّد التاريخ أقلامًا صنعت من السخرية فنًّا راقيًا، أمثال محمود السعدني، ومحمود عوض، وإحسان عبد القدوس في بعض نصوصه، والتابعي في مصر، وفي السعودية غازي القصيبي الذي تميز بسخريته الراقية في النقد الاجتماعي والسياسي، وأحمد السباعي، وحسين عرب، ومحمد جوهري، وحمزة شحاتة، وأحمد عطار، الذين حوّلوا الضحك إلى أداة نقد تُحدث الأثر دون أن تُشهر السكين.

عندما تنقلب السخرية إلى كارثة
‏السخرية سلاح ذو حدّين. فقد تنقلب النكتة إلى إساءة، وقد يتحول النقد إلى سوء فهم. أذكر أن كاتبة في إحدى الصحف المحلية، حاولت أن تسخر من تقاعس وزارة المالية تجاه المتقاعدين، فاختتمت مقالها بجملة صادمة:
‏”ليت المتقاعدين يموتون فنُريح الدولة من أعبائهم!”
‏لم تكن نكتة، بل صفعة موجعة! تحوّلت الفكرة إلى فضيحة، وتحوّلت الرسالة إلى جريمة، وقُوبل المقال بهجوم واسع، إذ لم يستوعب كثيرون أنها تسخر من القرار لا من المتقاعدين أنفسهم. هذا هو مصير الساخر الفاشل: أن يُساء فهمه تمامًا، أو أن يُفهم… أكثر مما قصد!

«كرسي في الكلوب».. كيف كدتُ أنهي مجلس التعاون الخليجي!
‏أما أنا، فلي مع السخرية واقعة لا تُنسى! خلال قمة مجلس التعاون الخليجي الثانية في الرياض (نوفمبر 1981)، وكنت آنذاك وكيلاً للإعلام الخارجي، أشرف على التغطية الصحفية للقمة. وبعد انتهاء التنسيق لدخول الإعلاميين، اتجهتُ إلى كرسيي في القاعة — دون أن أنتبه أن سلك كشاف إضاءة تلفزيوني ضخم (فلاش) كان مربوطًا به!
‏جلستُ، فانشدّ السلك، وكاد العمود الضخم أن يسقط على طاولة الملوك والرؤساء الخليجيين! لولا يقظة الصديق د. فؤاد الفارسي، وكيل وزارة الإعلام، الذي أمسك العمود معي في اللحظة الأخيرة وأنقذني من “إعدام” إداري محتم!
‏قال لي أحد الزملاء (وكان وزيرًا): “كنتُ أعلم أنك ستفعلها!”
‏فأجبته: “ولماذا لم تُنبّهني؟! كنتَ ستُنقذ القادة بدلًا من انتظار مشهد النهاية!”
‏لاحقًا، مازحني سمو الأمير تركي الفيصل (رئيس الاستخبارات وقتها) قائلًا: “رأيت كل شيء!”
‏فقلت له مبتسمًا: “كنتُ أعمل بنشاط ولم يلاحظني أحد، فاضطررتُ لفعل شيء… يجذب الانتباه!”

ماذا لو…؟
‏لو سقط ذلك الكشاف فعلًا، لربما كانت تلك آخر قمة خليجية في التاريخ! ولربما صرتُ — عن غير قصد — “بطل تفكيك مجلس التعاون الخليجي!”
‏بل في مقال كتبته لاحقًا، تساءلت ساخرًا:
‏”ربما أكون قد قدّمت خدمة جليلة للخليج بتسريع نهاية منظمة باتت تذكّرنا بالجامعة العربية!”
‏تلك الجامعة التي يطالب البعض اليوم بإلغائها لأنها “منظمة بلا فاعلية ولا جمهور”!

السخرية… بين الطبيب والمهرّج
‏الفرق بين السخرية التي توقظ العقل، وتلك التي تهين الوعي، هو الفرق بين الضحك على الجراح… والضحك على الذقون!
‏الساخر الحقيقي مثل الطبيب:
‏يضحكك قبل أن يغرز الإبرة، لكنه يعرف بالضبط أين يغرزها.
‏أما الساخر الرديء، فهو من يجعل الجمهور يضحك… ثم يدميهم دون أن يدري.