«حكاية النفط».. من كونتانغو البرميل بلا قيمة إلى ذروة اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية

«حكاية النفط».. من كونتانغو البرميل بلا قيمة إلى ذروة اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية

سيبقى النفط أكسجين المصانع، ووقود الطائرات، وشريان الحياة لاقتصادات الشرق والغرب، فكل خطوط الإنتاج، من أعقد المصانع إلى أبسط المركبات، ستبقى معتمدة على قطرة منه لتدور العجلات وتنبض الأسواق.
من البئر إلى المنصة، ومن الشاحنات إلى أنابيب الغاز، ما زال النفط يُدير كل شيء، إنه السلعة الأولى التي تدفع الاقتصاد إلى الأمام، وتُعيد تشكيل خرائط التحالف والصراع، مهما تحدثت مؤسسات الطاقة المتخصصة عن توقعات متشائمة لنمو الطلب العالمي في المستقبل، يبقى النفط نفطاً.

تبدأ قصة اليوم، من مساء 20 أبريل من عام 2020، اهتزّ أحد أعرق أسواق السلع في العالم، وتبددت قواعد المنطق الاقتصادي على قارعة شاشات التداول.. ماذا يحدث؟.. النفط دون الصفر.في ذلك اليوم، لم يعد النفط سلعة تُشترى وتُباع، بل أصبح عبئاً على مَن يحوزه… حتى ‘ن حامليه راحوا يدفعون المال للتخلص منه.الكونتانغوكانت أوقات عصيبة دون شك، فالجميع استدعى من ذاكرته الأكاديمية مفهوم «الكونتانغو» يوم الانهيار، لم يكن المفهوم التقليدي له قائمًا بمعناه الدقيق فما حدث في أبريل 2020 كان أقرب إلى تشوه زمني في تسعير الخوف.في لحظة حرجة، تساوى السعر الفوري والآجل بل إن الآجل بات أقل، مع اقتراب موعد تسليم العقود لشهر مايو. لم يعد هناك «غدٌ أفضل»، بل مجرد سباق محموم للخلاص من حمولة لا تجد مستقراً.الوباء يثقب برميل النفطلم يكن النفط وحده من انهار، بل انهار معه الإيقاع اليومي للبشرية.جائحة كورونا أغلقت الأبواب، عطّلت الطائرات، أطفأت المحركات، وجعلت البراميل تُكدس فوق بعضها حتى اختنقت الخزانات.الطلب انهار إلى الحضيض، ولم يجد العرض المتدفق من آبار روسيا والسعودية سوى الفراغ ليسكن فيه.مشهد غريب عجيب.. كبرى الدول المنتجة تفتح الصنابير أكثر، لا أقل، في حرب أسعار أشعلت السوق زيتاً فوق نيرانٍ خامدة.البرميل الصفريحين دقّت عقارب الساعة نحو نهاية جلسة التداول في نيويورك، كان هناك من يدفع 37 دولاراً للبرميل فقط كي لا يستلمه.من يملك عقد مايو كان عليه أن يجد خزاناً، ناقلة، أو حتى حفرة.. لكنه لم يجد شيئاً، فأُجبر على دفع المال للمشترين كي «يأخذوه منه».كانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي يُباع فيها النفط بالسالب.هنا، وُلِد مفهوم «البرميل الصفري» لا كمصطلح فني، بل كواقع نفسي ومالي. لم تعد قيمة النفط تُقاس بمدى الحاجة إليه، بل بكلفة التخلص منه.كان البرميل يعني تكاليف تخزين، مخاطر قانونية، ومجهولاً لوجستياً. لم يكن له ثمن.. بل عبء.الذعر يسودانهارت الصناديق، تخلّت شركات الوساطة عن عملائها، وامتلأت شاشات التداول الفورية والآجلة بالأحمر الداكن، في تلك اللحظة، لم يعد أحد يتحدث عن الربح، بل عن «النجاة»، ثم عاد، لكن كما في القصص التي تعشق التحول، عاد الذهب الأسود ليلمع.مع منتصف 2021، عادت المصانع للعمل، وفتحت المطارات أبوابها، وبدأت الدول تلملم شظايا اقتصادها، تدخلت «أوبك+» من جديد، هذه المرة على قلب رجلٍ واحد، لتقود مشهد خفض الإنتاج واستعادة التوازن.الحرب الروسية الأوكرانيةثم جاء 24 فبراير 2022.. يوم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وبينما كانت الدبابات تتقدم نحو كييف، كانت أسعار النفط تتسلق جدار الذعر العالمي لتندفع صناديق التحوط وشركات الشحن والمصافي وحتى صانعي القرار إلى تأمين احتياجاتهم بأي ثمن.الحديث عن العقوبات الغربية على روسيا، ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، أجّج القلق من اختناقات توريد غير مسبوقة، وفي مشهد يناقض كل ما سبق بعامين، قفز خام غرب تكساس الوسيط فوق 129 دولاراً، فيما حلّق عقد خام برنت لأعلى من 130 دولاراً للبرميل.من القاع للذروةمن قاعٍ دون الصفر إلى ذروة فوق المئة بثلاثين، وكأن السوق اختصر في عامين ما قد يحتاج إليه الاقتصاد لعقد كي يفهمه.كانت تلك القفزة أكثر من مجرد رد فعل على نقص المعروض أو عقوبات على روسيا؛ كانت تعبيراً عن هشاشة العالم حين يُهدد أمن الطاقة، وعن التحول المفاجئ من وفرة لا تجد من يشتريها، إلى ندرة لا تكفي حتى لمن يدفع أكثر.ويبقى النفط من البئر إلى المنصة، ومن الشاحنات إلى أنابيب الغاز، يدير كل شيء، ويعيد تشكيل خرائط التحالف والصراع، فمن يملك النفط يحكم.